الضربة الإيرانيّة وفرَحنا العارض
بعد أن فقد الكثيرون الأمل فيها جاءت، على غير ما توقَّع الكلُّ، وعلى غير ما عرِفت إيران عن نفسها أو عرِف عنها الجمهور المتابع، أو حتى المناصرون في المعسكر الحليف، راج وذاع نبأ خروج إيران من الصراع حفاظًا على نفسها أو مشروعها النووي (كما روَّج الذباب الإعلامي والإلكتروني، الخليجي والصهيوني خاصَّةً) ومن ثمَّ هزيمة الحزب والمعسكر كلِّه.
تبدو محسوبة ما زالت، تلك الضربات التي أثلجت صدورنا ولو عرضًا، وإن أعلنت تصعيدًا (نوعًا وكثافةً وهدفًا)، لكنَّ حدوثها جاء حتميًّا ولو لإعادة شيءٍ من الروح والثقة للمعسكر المقاوم وجمهوره، بعد الضربات الأخيرة التي أفقدته توازنه وشكَّكته في انحيازاته الراسخة.
ولا أُبالِغُ إن قلتُ إنَّ المعيارَ أهل الصراع، نفرحُ لهم ونحزن معهم، وقد فرحوا الليلة كثيرًا بطول القطاع المخذول، وفي سائر الأرض المحتلَّة، تمامًا كما جرى في لبنان والعراق واليمن، وهذه بوصلتنا في النظر لكلِّ واقعةٍ، ولو انفعالًا مؤقَّتًا، ولو لليلةٍ أو بعض ليلة.
وإن كان وصلنا تزامنًا فرح الأهل في المخيَّمات والخيام بطول القطاع المغدور، إلَّا أنَّ بيان أبو عبيدة أبى إلَّا أن يُتمَّ.
لكنَّه فرَحٌ عارِضٌ كما قُلتُ، لا يتوهَّم الأمور على غير حقيقتها، يستوعبُ أينَ هوَ ويحاول إدراك مساره بعد ما جرى، يعرفُ أنَّ الضربةَ ضروريَّة لكنَّها غير مكافئة، يعرفُ أنَّ الفرَح بها فطريٌّ دون أن ينكر القلق من القادم بعدها، لا يُفلتُ زمام عقله إنكارًا ولا غَرقًا، ولعلَّ هذه واحدة من نوادر ميزات التفرُّج عن بعد (ولو مهمومًا، ولو منحازًا، ولو يُصيب قلبك ما يصيبُ أجساد الأهل ودورهم) أنَّه يتمسَّكُ بالتحليل والفهم قدرَ ما استطاع وسمحت له المعطيات.
ولهذا لا ضيرَ من قراءةٍ سريعة لما جرى في نقاط محدَّدة حول أهمِّ ما في الضربات الإيرانيَّة:
قالت: لم يُترك حزب الله أو لبنان وحيدين، كما ذاع وانتشر منذ الضربات الأخيرة للجبهة اللبنانيَّة.
الضربة قد تكون الأكثف والأوسع جغرافيًّا، وربَّما أثرًا، وهو ما يُهين الكيان، وينسف ما يحاول ترسيخه بجرائمه المرعبة، كما يقول بقابليَّة الاستهداف والوصول والإيلام، ومن ثمَّ تحقيق هزائم.
أجهزت سريعًا على ما حقَّقه نتنياهو -داخليًّا، ودوليًّا، وحتى عند الخصوم من جمهور المقاومة- من نصرٍ في الأيَّام الماضية، خاصَّةً على الجبهة اللبنانيَّة بدءًا من تفجيرات أجهزة الاتصال واغتيال القادة وغيرها من الاختراقات القاسية.
الضربة قد تكون الأكثف والأوسع جغرافيًّا، وربَّما أثرًا (إذا نظرنا للأهداف العسكريَّة المستهدفة والتي تقول التقارير الأوليَّة إنَّها أصابتها بنجاح وربَّما دمَّرتها كليًّا)، وهو ما يُهين الكيان، وينسف ما يحاول ترسيخه بجرائمه المرعبة، كما يقول بقابليَّة الاستهداف والوصول والإيلام، ومن ثمَّ تحقيق هزائم.
أعادت شيئًا من "كرامة" إيران في الصراع، بعدما تلقَّته مباشرةً أو في لبنان من ضربات أهانتها وأهدرت ما ردَّدته طويلًا حول "قوَّة الردع" الإيراني.
وصول الضربات لمحور نتساريم، في وسط غزَّة أريد له أن يقول: ما زالت فلسطين هي المعركة، وما زالت هي التي ستحدِّد وجود الجبهة اللبنانيَّة، وألَّا انفصال بينهما؛ فما اغتيل لأجله نصر الله ما زال هو نهج المعسكر كلِّه، حتى الآن على الأقلِّ.
ولا يمكن أن نجرِّد الضربات الإيرانيَّة من سياقها، إذ سبقها تصاعد في استهدافات حزب الله لنقاط وقواعد عسكريَّة، بأسلحة يدخل بعضها ميدان المعركة للمرَّة الأولى، وقبلها ببضع ساعات ظهر "نعيم قاسم" ليطمئن الحزب وجمهوره بأنَّ القيادة موجودة، ومستمرَّة في إصدار التعليمات وإدارة المعركة، ليُنهي حالة الارتباك التي أصابتهم بعد اغتيال نصر الله وعدد من قيادات الحزب.
يبدو أنَّ هناك لملمة للشتات من المحور المقاوم في الساعات الأخيرة، يبدو أثرها اللحظيَّ مهمًّا وعميقًا، والأملُ في أن يمتدَّ لأطول مدى.
وأخيرًا: نُدركُ حدود الضربة، ونعيها في سياقها، ونعلم تمامًا قياسها مقابل ما تلقَّينا من العدوِّ في الأسابيع الأخيرة؛ لكن يحقُّ للقلوب المهترئة حزنًا أن تبتهج ولو قليلًا، ولو لليلة، قبل أن تعود ماكينة الحصد لعملها؛ بمثل هذا يكمل السائرون في البيداء مسيرهم.. حتى يصلوا.