ملف: القومية والعنصرية (23)

18 يونيو 2023
+ الخط -

عندما كنت في مرحلة الطفولة كان يراودني حلم يناسب براءة تلك المرحلة العمرية. كنت أرغب في أن يجتمع العالم كله في دولة واحدة. ربما لأني لم أكن أحب الجغرافيا، وربما لأني لم أجد معنى لتلك الحدود. أعددت ملفاً على حاسوبي وقتها ووضعت فيه ما يدعم تلك الفكرة.

لست بحاجة إلى أن أخبرك أن الحلم لم يتحقق حتى الآن. اختفى ذلك الحلم من قائمة أحلامي منذ وقت طويل، وأصبح حلمي الأكبر الآن أن أدير بقالة وأجلس أمامها أراقب الناس وآنس بحركتهم. علمت بعد ذلك أن ذلك المشروع يشار إليه عادة بمصطلح "الحكومة العالمية"، وهو مصطلح سيئ السمعة في بلادنا العربية، لا أعلم السبب.

عندما أنظر إلى ذلك الحلم الآن أجد غرابة في جديتي في السعي وراءه. لكني أيضاً ألحظ أني لم أجد إجابة عن سؤالي، ما معنى تلك الحدود؟ أرجوك لا تتهمني بالخيانة الآن، فليس هذا إلا سؤالاً بريئاً ومشروعاً، ولعل غضبك وإسراعك إلى اتهام من يطرحه بالخيانة أو أنه يساري أو إسلامي أو غيره دلالة على أنك في الغالب لا تجد إجابة مرضية عن ذلك السؤال. في الواقع إن الإجابة التي أرجحها هي أن الدولة القومية الحديثة تستمد شرعيتها من مزيج من الواقعية السياسية والنفعية الأخلاقية، فليس من المعقول، حتى لو لم تجد معنى لتلك التقسيمات، أن تلغيها وأن يعيش الناس في حالة فوضوية، فأضرار ذلك أشد بالطبع من فوائده. قد تجادل بأن شرعيتها شرعية وطنية، لكن الدول الحديثة تكونت مقسمة لأوطان كانت قائمة، حتى تجد أنها أحياناً تقسم قرية فيصبح جزء منها واقعاً في دولة والجزء الآخر في دولة أخرى!

قد تكون إجابتك أن هدف الدولة هو تنظيم شؤون الأمة، وهذا صحيح، لكن كيف تنشأ الدول؟ هل تنشأ من أمم متآلفة قررت أن تنشئ لنفسها دولة تنظّم شؤونها؟ كم عدد الدول التي نشأت بذلك الشكل؟ تكاد تُعد على أصابع اليد، أما الباقي فقد نشأ نشأة قسرية أو اعتباطية فتجمع أمماً لا تأتلف، لكني لا أحتقر أي أحد اعتماداً على الدولة التي ينتمي إليها. لا أستطيع أن أفهم لماذا يحتقر بعض من يطلقون على أنفسهم "قوميين" البشر خارج حدود دولتهم، في الواقع، هم لم يتركبوا أي جريمة، إذ إنهم ولدوا في تلك المناطق فقط. فضلاً عن أن كثيراً من الخصائص الثقافية والجسدية والنفسية والدينية ستعتمد على مولدهم في منطقة ما من مناطق العالم، لذلك لا يمكنني أن أحتقرهم لتلك الخصائص. في الواقع، أظن أن المشكلة قد تكون في الأيدولوجية القومية نفسها. قد تنسينا القومية أن القوميات الأخرى ترتبط أيضاً ببشر.

ظهرت بعض الدعوات من أولئك القوميين في مصر إلى منع السودانيين من دخول مصر لأنهم سيحتلونها ويغيرون ثقافتها وينهبون خيراتها

في عقب أزمة الصراع على السلطة في السودان، بدأ بعض السودانيين في التوجه إلى الدول المجاورة. ظهرت بعض الدعوات من أولئك القوميين في مصر إلى منع السودانيين من دخول مصر لأنهم سيحتلونها ويغيرون ثقافتها وينهبون خيراتها! السودانيون! ربما يكون جدك قد عاصر توحّد السودان ومصر في دولة "قومية" واحدة. وليس معنى ذلك أني أرفض حق لاجئي الدول الأخرى في اللجوء إلى مكان آمن، لكن ذلك ينبئ عن أن مَن يتبنّى هذا الرأي ليس عنده أي وعي إنساني، أو سياسي، أو تاريخي، أو قومي حتى. هي ليست إلا مجرد محاولة لإعلاء الذات.

الفكر القومي المنتشر بيننا يجعلنا أقل تعاطفاً مع البشر من القوميات الأخرى. قد تكون الأمة التي بجوارك تعاني أشد المعاناة مع الجوع والفقر، ولكنك لا تجد ذلك مبرراً لمساعدتهم، أو التخلي عن شيء من الكماليات لتوفر لغيرك شيئاً من أساسيات الحياة، لماذا؟ لأنه ليس من قوميتي! الفكر القومي الحديث بحاجة إلى إصلاح جذري. ينبغي ألا ننسى أن دول العالم يسكنها بشر، لا مجرد مواطنين.

مع خفوت نظريات العنصرية العرقية يبدو أن العنصرية المنتشرة والتي ستنتشر في المستقبل ستكون من نصيب العنصرية القومية. كما كانت العنصرية العرقية تشرعن لنفسها عن طريق هراء فلسفي وعلمي وتاريخي، فالعنصرية القومية تسير على نفس الخطى. فهي تعمد إلى تقديس كل ما يتعلق بتلك القومية أو جزء منه تدعو إلى العودة إليه لتعود لها الأمجاد. وهذا يعني بالضرورة أن القوميات الأخرى، إن لم تكن شيطانية، فهي على الأقل ليست مقدسة.

مؤمن محمود رمضان أحمد
مؤمن محمود رمضان أحمد
كاتب ومترجم مصري. يعرّف عن نفسه بالقول "لم أعرف نفسي بعد".