ملف: العنصرية تفتك بنا (3)
"لا أستطيع التنفس"! إنها الكلمات الأخيرة التي تلفظ بها جورج فلويد، ذاك الرجل الأميركي من أصول أفريقية الذي قتله ضابط شرطة من ذوي البشرة البيضاء بعد أن جثا على رقبته لمدة تسع دقائق. وأصبحت قضية فلويد وكلماته هذه سبباً لاشتعال الاحتجاجات والتظاهرات في ما بعد، سواء في أميركا أو دول العالم المختلفة ضد العنصرية.
تعكس مثل هذه الحوادث، وما أكثرها في الغرب صورة "الغرب العنصري"، والتي بدأت تاريخياً كعنصرية اجتماعية عرقية، أو على أساس لون البشرة بين البيض والسود، وتطوّرت مع مرور الوقت من المجتمع إلى السياسة، لتصبح في صلب أيديولوجيات الأحزاب، خاصة القومية واليمينية منها.
إنه "الغرب العنصري" أو أقله هذا ما نظنّه نحن العرب، فتكون الإجابة النموذجية على سؤال ما إذا كنا عنصريين، أنه "بالطبع لا، العنصرية للغرب". لكن هذه الإجابة لا تعكس حقيقتنا، فقد يكون لكلّ منّا نزعة عنصرية بداخله دون أن يدرك ذلك، لأنها تتفشى بطرق مختلفة، وتنال من ضحاياها بسبب اللون أو العرق أو النسب العائلي أو الاختيار المهني من دون علم من يمارسها أنه "عنصري"، خصوصاً أنّ القوانين والأعراف لم تكبح ذلك.
في الدراسة الاستقصائية الأولى عن العنصرية في البلدان الناطقة بالعربية، كشف استطلاع، أجرته شبكة الباروميتر العربي للأبحاث لصالح قناة بي بي سي نيوز عربي عام 2022، عن اعتراف واسع النطاق من قبل المواطنين العرب في عدّة دول عربية في الشرق الأوسط وشمال أفريقيا إضافة إلى الأراضي الفلسطينية، بأنّ التمييز العنصري يمثل مشكلة.
العنصرية من أشدّ الأمراض فتكاً في المجتمعات، وقد تنتج عنها آثار كارثية
وهنا يمكن أن نقدم لبنان نموذجاً. ففي هذا البلد الصغير، إنّ الأحداث والأخبار المرتبطة بالعنصرية، وعلى مختلف أنواعها، تفوق الـ 10452 (مساحة لبنان 10452 كلم مربعا)؛ وأكثرها وضوحاً الممارسات ضد العاملات الأجنبيات الممنوعات من الدخول إلى بعض المسابح، أو أن يكون دخولهن مشروطاً بعدم النزول إلى أحواض السباحة. كما أنه لا يمكن إغفال الحملات العنصرية المتكرّرة ضد السوريين حتى قبل اندلاع الثورة السورية، وقبل أن يصبح ملف اللاجئين ورقة للأجندات السياسية يتم تحريكها بحسب التطوّرات التي تشهدها الساحة اللبنانية وما حولها، فلطالما قصد السوريون لبنان للعمل، ولطالما تعمّد اللبناني نَسبَ مهن محددة لهم، خصوصاً أنه ليس خفياً على أحد أنّ كثيراً من المهن والأعمال التي يقوم بها السوريون، يتمنّع غالبية اللبنانيين عن القيام بها، في إشارة مطلقة إلى العنصرية المرتبطة بالجنسية والمهنة وغيرها من المفاهيم.
العنصرية مفهوم متشعب وله جوانب وممارسات مختلفة، وقد لا ينتهي الموضوع عند هذا الحدّ الفاضح، بل يتخطاه ليكون ضمن أطر العائلة الواحدة، ولو كان ذلك على سبيل المزاح والنكات، فكم من أم تمدح ابنها على اعتبار أنه مختلف عن إخوته بشقاره أو أنه تعرّف على فتاة جميلة لأنها شقراء، في إشارة إلى أنّ ذوي البشرة السمراء أقل جمالاً!
ولا تتوقف العنصرية عند حدود اللون لكن تمتد إلى الديانات والطوائف في هذا البلد الصغير الذي يضم 18 طائفة مختلفة، وعليه يتم تنميط الآخر بحسب انتماءاته الدينية والطائفية.
المسألة لا ترتبط فقط باعتقاد قد نكنّه في داخلنا أو نعبّر عنه في سياق حياتنا اليومية أو تواصلنا المجتمعي، فالعنصرية تبدأ مع الإنسان منذ النشأة تبعاً للظروف التربوية العائلية والمدرسة والمجتمع ووسائل الإعلام، لذا فإنّ العمل على التخلّص من هذه الآفة يبدأ من الإنسان نفسه، في مقارعتها ومساعيه المجتمعية ضمن الحلقات والدوائر الاجتماعية التي ينشط بها للتأثير في مناهضتها بمعزل عن القوانين والقواعد ذات الصلة والمرتبطة بالعنصرية.
فالعنصرية من أشدّ الأمراض فتكاً في المجتمعات، وقد تنتج عنها آثار كارثية. في كلّ يوم يمكن لكلّ واحد منّا الوقوف في وجه التحيّز العنصري والسلوكيات المُتعصّبة والمتطرفة، ألم يحن الوقت لأن نبني عالماً بعيداً عن العنصرية والتمييز، على أن نمارس جميعنا في الوقت نفسه حقوقنا الإنسانية؟ وكيف نصل إلى عالمٍ بلا عنصرية، إن لم نبدأ بأنفسنا؟!