ملف: العنصرية المسكوت عنها (22)
جارتنا تكره والدة زوجها. ربما، هي محقّة في تأفّفها وتعبها من معاملة والدة زوجها، لكنها لعجزها عن مواجهة زوجها ووالدته، حوّلت هجومها تجاه ابنتها الكبرى، بذريعة أنها تشبه جدتها جداً، وتكاد أن تكون نسخة عنها.
تمارس الأم عنصرية قاسية تجاه ابنتها لتؤكد حكاية البطة السوداء التي ترفضها أمها وتقصيها بعيداً، حتى عن انتمائها الأمومي. أوجدت جارتنا مبرّرات كثيرة لتبرّر حبّها لبناتها الثلاث الأخريات، الثانية تشبه جدتها لأمها، والثالثة شقراء بعيون ملوّنة، والرابعة آخر العنقود ذكية ومهضومة!
تحتاج الأم حزمة من الكراهية والتمييز لتنتقم من والدة زوجها التي تذكرها دوماً بأنها عاجزة عن إنجاب الصبيان، أو بأنّها فقيرة المنبت، أو بأنّها لا تعمل، وبالتالي لا تملك مرتباً شهرياً تصرفه في البيت. فهل نحن عنصريون وعنصريات بالفطرة؟
نعم. لأننا وافقنا على استبدال عاطفة الأمومة بالعقاب والإقصاء والتمييز بين الأبناء والبنات حسب الجنس، وبين البنات حسب الشكل. حتى الأمهات يمارسن العنصرية ببساطة متناهية، وعند مواجهتهن يُبرّرن ذلك قائلات: "والله بحبها هي بنتي من لحمي ودمي لكنها تسدّ أمامي كلّ أبواب التواصل والحب"! يقع اللوم دوماً على الضحية، إمعاناً في العنصرية القاهرة.
في قريتنا عنصرية واضحة ومعلنة، مع أنها تدور في الجلسات المغلقة بين أهالي القرية فقط، حيث يرفض أهل القرية الزوجات القادمات من مدن أو قرى أخرى. فهم لديهم/نّ قناعة بأنّ الزوجات الغريبات هنّ، حكماً، أقلّ قيمة أو مستوى من بنات القرية. يتداولون/ن القصص واحدة تلو الأخرى، تلك فقيرة، وتلك غير جميلة، وأخرى من قرية معزولة، والأخيرة يتيمة بلا أهل، وبلا نسب وحسب! أيضاً، تُعامَل بنات القرية المتزوجات خارج القرية بعنصرية مماثلة، لكن مع تبريرات بسيطة، تبريرات تخفّف من حدّة العنصرية، كأن يقلن: مصابة بشلل الأطفال فمن سيتزوجها من شباب القرية؟ أو أنّ سمعة أبيها سيئة لأنه مقامر، أو أنّ أمها الغريبة قرّرت تزويجها لابن خالها أيضاً حتى تهرب من كره أهل زوجها لها.
يهربون من خوفهم إلى مهاوي العنصرية وإلى مكامن الاستضعاف والتقليد، فقط، ليرضوا الطرف الأقوى، وليمنحوا أنفسهم قوة لا يملكونها أصلاً
تتكثّف العنصرية حين يتجاوز المعترضون من أهالي قريتي الزوجات الغريبات الغنيات، أو بنات أصحاب النفوذ والسلطة، أو الطبيبات. كذلك يحصل التمييز، ولكن إيجابياً، بين بنات القرية اللاتي تزوّجن مدير المدرسة مثلاً، أو ضابطاً في الشرطة، أو طبيباً، أو غنياً، أو ابن مسؤول نافذ... وما يؤكد العنصرية، وجود شروط تمييزية ومعيارية يحصل على أساسها القبول أو الاستبعاد، وهذا كله يحصل في عملية تواطؤ إقصائية وعنصرية رغم كلّ محاولات التحايل عليها بالألفاظ أو بالشروح.
وللسوريين والسوريات مساحات واسعة من العنصرية في بلاد اللجوء الجديدة التي صارت جزءاً أصيلاً من حيوات السوريين/ات. مثلاً، تُوصي الأم ابنتها بالصمت في المواصلات العامة، خوفاً من تصرّف عدائي طارئ بسبب اللغة، وتفتخر أم أخرى بلون بشرة ابنتها، وتقول بفخر واطمئنان: "الحمد لله مو مبينة سورية أبداً". هنا، تمتزج لعنة الهوية بلعنة الخوف من المجتمع الغريب والجديد، ويصبح الفكاك من فخ الاغتراب، وأيّ عنصرية محتملة عبر إنكار الهوية والأصل، وعبر التخلص الظاهري من وصمة بلد المنشأ تحت غطاء التشابه في الشكل لدرجة التطابق.
تبلغ العنصرية ذروتها حين تتباهى أم أو أب بأنّ ابنهما ألماني تماماً، وربما أكثر من الألمان أنفسهم، حيث تركز الأم، بإصرار، على لكنة ابنها الألمانية، وليس فقط إتقانه للغة، ويؤكد الأب قائلاً: "لو أنّ ابني ما زال يعيش في سورية ووضع حلقاً في أذنه لمنعته، وربما شمطت له أذنه، لكني الآن أشجعه على ذلك لأنه يعيش في ألمانيا". ويردف: "أنا أشجعه على ذلك كي يتأكدوا أنه غير إرهابي أو أنه متحرّر من الموانع الدينية والاجتماعية كالألمان!".
يهربون من خوفهم إلى مهاوي العنصرية وإلى مكامن الاستضعاف والتقليد، فقط، ليرضوا الطرف الأقوى، وليمنحوا أنفسهم قوة لا يملكونها أصلاً، وهنا يكمن الخطر الحقيقي، أي بممارسة العنصرية تحت ذريعة الخوف منها أو معاقبة مرتكبيها.