ملف: العنصرية الرقمية (5)
العنصرية مرض لا يُصيب البشرة بل يصيب العقل البشري، وهي موجودة في كلّ مجتمع، وتأتي بشكل: عدم قبول الآخر أو التعصّب للسلالة أو اللون أو الدين أو المنطقة... فكلّ مجتمع يوجد فيه من يمارس الاضطهاد العرقي والتمييز العنصري، إنها سمات في تركيبة النسيج الثقافي للمجتمعات.
تاريخياً، كانت العنصرية أداة للسيطرة ولها جذور عميقة في الاستعمار، ولقد أدت العنصرية دوراً أساسياً في تمكين النخب الصغيرة من البقاء في السلطة من خلال تكتيك "فرّق تسد" الذي يهدف إلى تقسيم المجتمعات.
ومع التطوّر التكنولوجي وظهور الشبكات الاجتماعية التي أصبحت جزءاً لا يتجزأ من حياة الإنسان اليومية، والتي باتت عملياً تُشكّل مجتمعات رقمية بحدّ ذاتها، امتدّت العنصرية إلى هذا الفضاء الرقمي، ما يُمكّننا من تعريف العنصرية الرقمية على أنها تلك العنصرية التي تحدث في العالم الرقمي.
تشمل العنصرية التي تحدث على الإنترنت أشياء كثيرة مثل المواقع العنصرية (أو التي تبثّ وتنشر محتوى عنصرياً) والصور والمدوّنات ومقاطع الفيديو عبر الإنترنت (ذات المحتوى العنصري)، بالإضافة إلى التعليقات أو الصور أو اللغة العنصرية في الرسائل النصية أو رسائل البريد الإلكتروني أو على مواقع التواصل الاجتماعي. وهذا أمر يتم تعريفه على نطاق أوسع، على أنّه استخدام لتقنيات المعلومات والاتصالات بهدف نقل المواقف والسلوكيات العنصرية، بما في ذلك نقل المحتوى المسيء عنصرياً الذي يهدف إلى إلحاق الأذى أو الضيق بشخص آخر.
الأنشطة عبر الإنترنت أو المواد المنشورة التي تتضمن أو تؤدّي إلى تعليقات مسيئة فيما يتعلّق بالعرق أو اللون أو الأصل القومي أو العرقي، يكون لها نفس تأثير الأنشطة غير المتصلة بالإنترنت، وأحياناً أكثر
بيد أنّ العنصرية الرقمية هي شكل من أشكال العنصرية، فتلك الأنشطة عبر الإنترنت أو المواد المنشورة التي تؤدي إلى تعليقات مسيئة فيما يتعلّق بالعرق أو اللون أو الأصل القومي أو العرقي، يكون لها نفس تأثير الأنشطة غير المتصلة بالإنترنت، والمماثلة لها.
ولكن بتقديري تُعدّ العنصرية الرقمية أخطر من العنصرية في العالم الواقعي نظراً لسرعة الانتشار الذي توفّره الشبكات الاجتماعية حول العالم، إذ لا ينحصر هذا النشاط العنصري بين شخصين أو داخل مجتمع واحد، بل يمتد لينتشر في كلّ أرجاء العالم، الأمر الذي يُنتج تفاعلات بين أخذ ورد. إنّ طبيعة التقنيات سريعة التطوّر تعني أنّ المناطق التي كانت تُعتبر في السابق مساحات خاصة، أصبحت الآن عامة. يعني الاستخدام المتزايد للإنترنت وتطوير مواقع وخرائط الشبكات الاجتماعية، على سبيل المثال، أنّ التعليقات المصنّفة على أنها "عنصرية"، عادةً بين شخص وآخر، يمكن الآن إرسالها إلى آلاف الأشخاص في غضون ثوانٍ، وهذا له عواقب أكثر خطورة من السلوك العنصري في العالم الواقعي.
بالإضافة إلى ذلك، فإنّ الاستخدام المتزايد وإمكانية الوصول إلى التكنولوجيا يعني أنه يمكن للجميع النشر الذاتي على الإنترنت. وقد أدى هذا حتماً إلى العديد من المواقع الإلكترونية غير الصحيحة من الناحية الواقعية، وأدى أيضاً إلى تطوير محتوى الويب بدوافع عنصرية.
أثبتت بعض السياسات أنّ المال أولاً، ولو تعارض ذلك مع حقوق الإنسان
وإن توقفت قليلاً على تقييم الساحة العربية الرقمية، المشهد يبدو مؤسفاً، ولا بل بعبارة أدق يبدو قبيحاً، سواء في لبنان الذي تصاعد فيه الخطاب العنصري ضد اللاجئين السوريين وتُرجم ذلك على المنصّات الرقمية من خلال المنشورات المسيئة، والتي تتضمّن سلوكاً عنصرياً (تغريدات مكتوبة، صور أو فيديوهات تفاعلية...). وفي مصر أيضاً لا ينتهي الخطاب العنصري الرقمي ضد السكان النوبيين والبدو والمهاجرين واللاجئين الأفارقة السود، وتطول اللائحة العربية، إذ سأكتفي بهذين المثلين.
ومن جانب آخر، وبالرغم من وضع مواقع التواصل الاجتماعي عدداً من القيود على خطابات العنصرية والكراهية، فإنّ النهج الذي تتبعه هذه المواقع ما زال غير محدّد وغير شامل في الوقت ذاته؛ إذ إنها لا تهتم بالسياق الذي يُنْشَر فيه المحتوى، ومن ثمَّ فهناك حاجة ماسة إلى إعادة تقويم السياسات الخاصة بمواجهة خطابات الكراهية لدمج السياق مع المحتوى هذا من جهة. ومن جهة أخرى، فإنّ رسملة هذه المنصّات وغاياتها التجارية فوق أيّ اعتبار، تحديداً بعد استحواذ إيلون ماسك على منصّة توتير، حيث أثبتت بعض السياسات أنّ المال أولاً، ولو تعارض ذلك مع حقوق الإنسان.
إذاً لا يمكن الاعتماد فقط على السياسات المُنظّمة للمنصّات الرقمية، ولا فقط على القوانين المحليّة، بل يجب أن يبدأ هذا الحرص من دواخلنا، ويجب أن نعمل على بناء رقابة ذاتية للإنسان لعدم نشر خطاب عنصري على وسائل التواصل الاجتماعي أو التفاعل معه.