ملف: العنصرية الانتقائية في المغرب (26)
دائماً ما نلجأ نحن العرب وأفارقة الشمال، للاحتجاج على الخطاب الاستشراقي الأوروبي أو الأميركي، وما يحمله من انتقاص ونظرة دونية، عنصرية واستعمارية تجاهنا، بينما ما يبصم مجتمعاتنا أنها لا تزال إلى حدّ الآن تحتكم، بشكل أو بآخر، للنُّسق المجتمعية التقليدية المتمثلة في روح القبيلة والعشيرة والطائفة. تَرتَّب عن هذه النُّسق نشوء خطاب إقصائي تجاه أيّ عنصر مجتمعي "آخر" لا يمتثل لأعراف القبيلة وأحكامها.
تاريخياً، كان هذا التعصّب للطائفة والعشيرة والقبيلة، سبباً في نشوب صراعات هوياتية طاحنة في المنطقة، وبعضها لا يزال يحتقن في شمال أفريقيا. هذا الإجحاف للهوية هو ما اصطلح عليه الكاتب، أمين معلوف باسم "الهويات القاتلة".
في التجربة المغربية، لطالما وُجِدت مظاهر عنصرية على أسُسٍ عرقية بين الأمازيغ والعرب، وعلى أسسٍ مجالية بين مختلف مكوّنات المجتمع المغربي. مثلاً، نجد الإقصاء الذي يتعرّض له "الجّْبْلِي"، "السُّوسِي" أو "العْرُوبِي". لكن مظاهر التمييز هذه ظلّت داخلية ومحدودة. وتجدر الإشارة هنا إلى أنّ المغرب الآن قد شهد اختلاطاً بين هذه الفئات قَلَّت معه مشاهد التمييز وعدم التجانس هذه. لكن هذا لا يعني انعدام العنصرية كممارسة فردية أو جماعية داخل البلد، بل على العكس.
فكما هو معلوم، يشكّل المغرب نقطة عبور للعديد من المهاجرين الأفارقة غير الشرعيين إلى أوروبا. وبالنسبة لهم، فإنّ المغرب هو آخر عَقَبة قبل الحلول على النعيم الأوروبي في الناصية الأخرى من المتوسط. لكن معظمهم لا يفلحون، فينتهي بهم المطاف عالقين في المدن المغربية ريثما ينجحون في العبور في محاولات أخرى. ومع مرور الزمن، أصبح عدد المهاجرين بالبلد ليس بالهَيِّن، وهنا بدأت حملات العنصرية تزداد ضدهم من طرف بعض المغاربة. وفي المقابل، لا يبدو أنّ للمغرب سياسة إيواء واضحة غير استعمال وجودهم كوسيلة ضغط على الحدود بين أوروبا، وغيرها من الاستعمالات السياسية.
جُلّ هؤلاء المهاجرين يختارون هذا السبيل كمفَر من الحروب، الاستبداد والفقر... ليفاجأوا بواقع آخر من الكراهية والرفض لهم، من طرف سكان بلد أفريقي شقيق.
لا يبدو أنّ للمغرب سياسة إيواء واضحة تجاه المهاجرين الأفارقة، غير استعمال وجودهم كوسيلة ضغط على الحدود بين أوروبا، وغيرها من الاستعمالات السياسية
وعلى سبيل المثال لا الحصر، مؤخراً، برزت حركات عنصرية مُمَنهجة، تَركز معظمها على وسائط التواصل الاجتماعي وتطالب بترحيل الأفارقة من جنوب الصحراء. وهنا برز خطاب شعبوي قومي بين هذه الفئات الرافضة لوجودهم بالمغرب، حجته أنّ هؤلاء المهاجرين غير الشرعيين يأتون للمغرب بمنطلق "الاستيطان" أو ممارسة نوع من السادية الأفريقية. أما هدفهم بالأساس، فهو التعمير في المغرب كجزء من مخطّط توسعي أفريقي يبتغي تشكيل أغلبية في شمال أفريقيا عبر الهجرة والتكاثر ليصبحوا مُستقبلا قوة تطالب باستقلالها كوحدة أفريقية. وعلى هذا النحو نشأ عند ضحايا هذه الحملات تخوّف وهوس من أن يخسر المغاربة هويتهم في المستقبل لصالح هذا الزحف القادم من جنوب أفريقيا.
كانت هناك منشورات على بعض مجموعات "فيسبوك" تدعو المغاربة إلى الانخراط المكثّف في هذه الحملة خوفاً من أن يقوم المهاجرون بتطهير عرقي مستقبلاً ليصبحوا هم السكان الأصليين. فنجد أن معظم حملات الاستهزاء الرقمية كانت تنشر صوراً لأفارقة سود البشرة بالزي المغربي، أو في سياق يبرز ثقافة المغرب في قالب جنوب- أفريقي، ويدوّن عليها مثلاً "هكذا سيصبح المغرب بعد ثلاثين سنة".
كما أعطت تصريحات الرئيس التونسي، قيس سعيّد، العنصرية تجاه المهاجرين "الشرعية الكاملة" لحملة المغاربة هذه. وقد وصل الحدّ في المغرب إلى نشوب أعمال عنف بين المهاجرين الأفارقة وقوات الأمن المغربية، وصل صداها للإعلام الغربي.
أما أنا، فأجد ردّة فعل المغاربة هذه عبارة عن عنصرية انتقائية، ولو أنّ جُلّ المتفاعلين مع هذه الحملة غير واعين لعنصريتهم. إذ لو كان السبب هو التخوّف من فقدان الهوية المغربية والتوّسع الأفريقي داخل الوطن، فهذا سبب واهٍ من السهل دحضه.
مثلا، الآن نجد أجانب من أوروبا، كندا والولايات المتحدة الأميركية يشترون ضواحي وأزقة بأكملها في المدن العتيقة بالمغرب. وهنا لا أتكلم عن أشخاص يأتون لقضاء العطلة أو فترة التقاعد بالمغرب، بل أتكلم عن أفراد وجماعات يستقرون بالبلد، وبعضهم يدرّس أبناءه بمدارس البعثات بالبلد. وكما تمتد هذه الظاهرة في بعض المدن السياحية أو المركزية مثل طنجة، الصويرة، أصيلة، الرباط، وخصوصاً مراكش، وربما مدن أخرى لم يتسنَّ لي تحرّي أمرها بعد.
معظم حملات الاستهزاء الرقمية كانت تنشر صوراً لأفارقة سود البشرة بالزي المغربي، أو في سياق يبرز ثقافة المغرب في قالب جنوب-أفريقي
وإذا كان المغاربة فعلاً قلقين من فقدان هويتهم لصالح السود، فمعظم هؤلاء يشترون أحياء بأكملها في قلب المدن القديمة، والتي تشكّل روح الهوية المغربية وهي منبع ما نصطلح عليه بـ"تَمَغْرَبِيت"، أي جوهر ما هو مغربي.
من جهة أخرى، وأمام واقع اقتصادي واجتماعي صعب، يضطر قاطنو هذه الأحياء لبيع منازلهم للأجانب وشراء سكن اقتصادي في إقامات سكنية تشكل مظهراً من مظاهر التكديس الرأسمالي للإنسان في مربعات اسمنتية خالية من الجمالية التي تغنّت بها البيوت العتيقة المغربية، والتي باعوها بثمن بخس للأجانب.
ومن باب معرفتي بهذا الملف، يأتي بعض الأوروبيين للإقامة بالمدن المغربية من أجل ممارسات لا يُسمح لهم بها في أوروبا مثل ممارسة الجنس مع القاصرين/ات مثلا. وكلّ هذا موّثق والعديد من المغاربة على وعي تام بهذا، ومع ذلك يختارون الصمت بدل الاحتجاج كما فعلوا على أعمال الشغب التي يقوم بها الأفارقة من جنوب الصحراء كردّ فعل على العنصرية الموّجهة إليهم.
وإذا صارحنا ذواتنا نكون أمام سؤال: لماذا نلتزم الصمت تجاه طرف معين وآخر لا، سنجد أنّ الفرق بين الاثنين هو في الحقيقة واضح للغاية. أولاً لأنّ الآخرين هم بيض البشرة وأغنياء، لذا لا أحد يحتج إذ مال لون بشرته نحو ألوان الضفة الأخرى. أما أفارقة جنوب الصحراء، فهم سود البشرة ومحتاجون، وغالباً ما يلجؤون للتسوّل لسدّ جوعهم. وبهذا، أعتبر العنصرية في المغرب استثنائية، انتقائية بطبعها، حيث تُمارس على بعض الأجانب ويُعفى منها آخرون.
العنصرية في المغرب استثنائية، انتقائية بطبعها، حيث تُمارس على بعض الأجانب ويُعفى منها آخرون
طبعاً، أنا لا أدعو إلى أن يكون لجميع الأجانب نفس النصيب من عنصريتنا، ولكن أجد الدفاع عن الهوية بهذا التعصّب تجاه أشخاص من نفس القارة أمراً غير صائب بتاتاً إلى جانب موقفي الرافض لأيّ فعل عنصري، أيّا كان نوعه ودوافعه.
أما إذا اقتفينا جذور هذا التمييز والعنصرية تجاه السود، فسنجد أنّ جزءا منها راجع إلى طول تعمير العبودية كممارسة في المغرب، حيث استمرت حتى النصف الثاني من القرن العشرين. فنجد أنّه قبل حملات العنصرية الأخيرة هذه، كانت وما زالت كلمات مثل عَزِّي/عْزَاوَا (جمع) (nigger/negros) بالإنكليزية وهي كلمة تعني زنجي، وكلمات مثل "كَحلوش" أو "حرطاني"، تعني أسود البشرة، تستعمل وتتداول لمخاطبة السود أو المغاربة ذوي البشرة السوداء إلى يومنا هذا.
وعلى الصعيد الإعلامي والسياسي، فإنّ الدولة راقبت حملات العنصرية الأخيرة بكلّ قلق وترقُّب، وقد مَوَّلَت حملات تحسيسية، لا لأنها تريد محاربة العنصرية، لكن بالأساس لأنّ هناك تخوّفا من أن تُؤّثر هذه الموجات العنصرية على نزاع الصحراء وملف لَمِّ المقاطعات الجنوبية حيث يعيش معظم المغاربة السود.
وفي نفس الوقت، لا يجب أن ننكر مجهودات بعض الهيئات المستقلة في هذا الخصوص مثل جمعية غاديم (Gadem) لمناهضة العنصرية والدفاع عن حقوق الأجانب والمهاجرين.
وأخيراً، يجب أن لا ننكر كمغاربة أنّ هذه الحملات ضد المهاجرين الأفارقة هي في جوهرها عنصرية، ولو أننا لا نحب الاعتراف بذلك. فهي تتشابه في نُسُقها مع الحملات التي نتعرّض لها كمغاربة في دول مثل تركيا، وفرنسا، وبلجيكا وغيرها من الدول الأوروبية. فعلتنا هذه تهين كرامة إنسان آخر شاءت الأقدار أن يهاجر من بلده ويظلّ عالقاً في بلد آخر كما يحصل معنا في بلدان الآخرين.