ملف| الخطاب الغربي... وسيلة عند اللزوم (24)
تبيَن منذ الوهلة الأولى لإطلاق دولة الاحتلال عمليتها العسكرية تجاه قطاع غزّة نفاق العالم الغربي وازدواجية معاييره، ولم تكن شعوب الجنوب العالمي بحاجة للعودة لعملية الغزو الروسي لأوكرانيا للتأكيد على ذلك، بل كلّ ما احتاجوه استعادة التصريحات والانتقادات لعملية طوفان الأقصى، ومقارنته بما يتم توفيره من ذرائع ومبرّرات لإسرائيل في عمليتها البرية تجاه غزّة، وكأنّما الفلسطينيون لم يجدوا ما يفعلوه منذ 1948 فقرّروا الإغارة على إسرائيل. هذا كان جبل الجليد فقط، إذ كلّما مضى يوم إضافي في العدوان على غزّة، تكشفت عورة أخرى في الخطاب الغربي. الخطاب الذي بات كصنم العجوة، كلّما احتاجوا للتغاضي عن شيء ما قضموا منه قضمةً، كما تقضم دولة الاحتلال الأراضي العربية منذ 1948 وحتى الآن.
عالم حرية التعبير وحقوق الإنسان الذي ظلّ الغرب يبشّر به في أرجاء المعمورة لتبرير أو ضد انتهاك هنا، أو ردع عدو هناك؛ دخل في غيبوبة طويلة في العالم الغربي نفسه، إمّا بسبب التآمر بالصمت، أو بسبب القمع والإسكات لأيّ صوت يخرج عن الرأي الداعم لدولة الاحتلال. هذا القمع دفع خبراء بالأمم المتحدة لإصدار بيان، ليس لإدانة جرائم إسرائيل، بل للتذكير بأنّ التضامن مع الضحايا في غزّة ليس جريمة. لكن العديد من المؤسسات الغربية مضت إلى ما هو أبعد من ذلك، واعتبرت أنّ التعاطف مع غزّة ليس حرية تعبير، وإنّما معاداة للسامية، و دعم للإرهاب، وبالتالي جريمة تستحق العقاب.
كان من المفاجئ أن يُضرب بالمؤسسات الإعلامية المثل في هذه الحرب، حيث لم تصمت هذه المؤسسات عن حصاد أرواح الإعلاميين عبر رصاص الاحتلال فحسب، ولكن ذهبت خطوة إضافية، واتخذت إجراءات عقابية بحق المنتسبين لها والذين دعموا فلسطين في مساحاتهم الخاصة. وقد وصلت هذه الجزاءات إلى حدّ الإقالة والفصل من العمل، حيث وجد رسام الكاريكاتير البريطاني، ستيف بيل، نفسه خارج أسوار صحيفة غارديان البريطانية، بسبب رسم كاريكاتير يسخر فيه من رئيس الوزراء الإسرائيلي، بنيامين نتنياهو. ولم تشفع لبيل حرية التعبير المزعومة، كما لم تشفع له سنواته الأربعون في العمل بالصحيفة.
كلما مضى يوم إضافي في العدوان على غزّة، تكشفت عورة أخرى في الخطاب الغربي
أيضًا، لم تتردّد هيئة الإذاعة البريطانية (بي بي سي)، في إيقاف ستة من موظفيها، وإخضاعهم للتحقيق، بسبب ما نشروه على مواقع التواصل الاجتماعي، والذي وصفته الهيئة بالداعم للاعتداء على إسرائيل. وفي ديسمبر/ كانون الأوّل الماضي، قامت صحيفة لوس أنجليس تايمز بمنع ثمانية وثلاثين من صحفييها عن تغطية أخبار قطاع غزّة، وذلك بعد توقيعهم على خطاب مفتوح يدعو المؤسسات الإعلامية لتبني خطاب غير متحيّز لإسرائيل.
تحت الضغوطات وانتقام المؤسسات الإعلامية (الداعية للشفافية بطبعها!)، قام أكثر من ثلاثين صحافيا بسحب توقيعاتهم من ذات الخطاب، والذي وقع عليه أكثر من ألف صحافي وإعلامي. وبينما يغيّب القمع الإعلامي، لا الأمني، أصوات صحافيين لحين؛ فقد أسكت رصاص إسرائيل صوت أكثر من ثمانين إعلاميا وصحافيا، مرّة واحدة وإلى الأبد. دماء طاهرة، لطخت الصورة الزاهية للخطاب الغربي؛ فخلع الرداء ليبيّن للعالم أجمع سوءاته، ونفاقه.
وفي ساحة أخرى، تستلزم الاستقلالية والحرية عن سلطة الدولة، تبدّت عوراتهم مرّة أخرى، فقد كانت المؤسسات الجامعية هذه المرّة ساحة للجدل والجدال، وباتت أشبه بالثكنات العسكرية، ويستوجب على منسوبيها التقيّد بالأوامر العسكرية (دعم إسرائيل)، والالتزام بخط القادة (الممولين)، وإلا وجد الفرد نفسه خارج أسوار هذه المؤسسات التي طالما زعمت وضمنت حرية التعبير.
الطالب السوري الكندي، هاني علاف، كان على الجانب الخطأ من حرية التعبير، ولم يفهم ماهية حقوق الإنسان بشكل جيّد وفق أعرافهم. فقد كانت ملصقاته التي علقها على الجامعة التي يدرس بها، سبباً لطرده من الحرم الجامعي لأنّه ينشر خطاب الكراهية، حسب وصف أحد المسؤولين بالجامعة؛ فعبارة "أوقفوا نظام الفصل العنصري" تعني الكراهية في قواميس البعض. لم يكن حال هاني بأفضل من الطبيب، يبينق جي، العامل بجامعة أوتاوا بكندا. فالطبيب الذي مدحته الجامعة على صفحاتها قبل سنوات معدودة، تحوّل بين عشية وضحاها إلى شخص معاد للسامية، بسبب وصفه ما يحدث للفلسطينيين بالاحتلال الاستيطاني، مما دعا الجامعة لإيقافه عن العمل.
التعاطف مع غزّة ليس حرية تعبير من وجهة نظر الغرب، وإنّما معاداة للسامية ودعم للإرهاب، وبالتالي جريمة تستحق العقاب!
لكن حوادث استقالة رؤساء الجامعات الأميركية المرموقة كشفت الكثير وأكثر مما كنا نتوقع، ففي ديسمبر/كانون الأوّل الماضي استقالت رئيسة جامعة بنسلفانيا، ليز ماغيل، بعد ضعوطات من المانحين الذين هدّدوا بقطع دعمهم عن الجامعة إن استمرت ماغيل على رأسها. وبالرغم من الخلافات القديمة التي ارتبط بعضها باستضافة الجامعة لحفل الكتّاب الفلسطينيين، فقد كانت ردّة فعلها على عملية طوفان الأقصى هي القشّة التي قسمت ظهر البعير. فقد رأى المانحون أنّ الخطاب الذي قدمته ماغيل، لم يدن حماس بشكل صريح. في موضع آخر، وهو جامعة هارفارد كانت الاستقالة هي المصير المحتوم لرئيستها الجديدة، كلاودين غاي، التي رافقت ماغيل في جلسة الاستماع التي عقدها الكونغريس لعددٍ من رؤساء الجامعات للتحقيق في مزاعم خطابات معاداة السامية في المؤسسات التي يديرونها. كانت جريرة غاي عدم إدانتها لبيان أصدرته مجموعة من الطلاب بهارفارد تلقي فيه اللوم على إسرائيل. فتزايدت الضغوط عليها، ليس لدعمها فلسطين، بل لعدم إدانتها لمن يدعمونها، إلى أن قدمت استقالتها مطلع هذا الشهر.
حفظت مشاهد جلسة الاستماع بمحكمة العدل الدولية في لاهاي الهولندية، ماء وجه الدفاع عن خطاب حقوق الإنسان (بنسخته الغربية)، بعد الدعوى التي رفعتها جنوب أفريقيا ضد إسرائيل. لكنه، وفي هولندا ذاتها، قضت محكمة محلية ببطلان الدعوى المرفوعة لحظر تصدير قطع الطائرات القتالية لإسرائيل، بحجة أنّه لا دلائل على استعمال الإسرائيليين لها في القتل. لم تتجاهل المحكمة عشرات آلاف القتلى فحسب، بل تناست معايير الاتحاد الأوروبي الخاصة بتصدير السلاح، والتي من بينها حظر التصدير إلى الدول التي ترتكب انتهاكات ضد حقوق الإنسان. لكنه إنسانهم الذي يستحق الحقوق، ورأيهم الذي يستحق الاحترام!