كيف تقول لا للولايات المتحدة الأميركية؟
عقب زيارة مساعدة وزير الخارجية الأميركي لشؤون أفريقيا مولي فيي إلى النيجر؛ تلقت الولايات المتحدة ضربة موجعة لنفوذها في القارة الأفريقية، إذ أمرت سلطات المجلس العسكري، وبصورة فورية، إنهاء الوجود العسكري الأميركي في القاعدة العسكرية شمالي النيجر.
كما أصدرت السلطات النيجرية هذا القرار بعد حديث مولي فيي عن تقارير تتهم النيجر بعقد صفقات لبيع اليورانيوم لإيران. وإلى جانب رفض السلطات النيجرية هذا الاتهام، وتأكيدها حق البلاد في عقد اتفاقيات مع من تريد؛ فقد كانت هذه مجرّد تقارير، لم تثبت صحتها حتى.
هذه المسألة أعادت إلى السطح قضية تضليل الرأي العام التي استخدمتها إدارة الرئيس الأميركي الأسبق جورج بوش، برفقة الاستخبارات المركزية، بعد أن سرّبت وثائق تُفيد بحصول العراق على اليورانيوم من النيجر بغرض صنع أسلحة دمار شامل. وقد بنت الإدارة الأميركية حينها، على هذه التقارير، برفقة عوامل أخرى، لتسويق غزو العراق عام 2003، ليتضح فيما بعد أنّ الوثائق مزوّرة بالكامل، واستخدمت خصيصاً لتأجيج الرأي العام ضد نظام صدام حسين، وتبرير غزو العراق.
وقد رأى قادة الانقلاب في النيجر في هذا الاتهام الجديد (بيع اليورانيوم لإيران) محاولة من أميركا لكبح التمدّد الروسي في المنطقة، خصوصاً بعد تمدّد روسيا في مالي وبوركينا فاسو بعد انقلابات عسكرية مشابهة، أطاحت رؤساء ذوي علاقات وطيدة مع المعسكر الغربي.
في السودان المسكين، دولةً و شعباً، الذي عانى الأمرين من فعائل وعقوبات الإدارات الأميركية المتعاقبة، سبق أن فرضت أميركا عقاباً جماعياً (غير معلن) عليه، منذ أن تبنى الصادق المهدي، رحمه الله رحمةً واسعة، سياسة متوازنة تجاه المعسكرين الشرقي والغربي.
من لا يستخدم أوراقه، ويعجز عن قول لا؛ يبقى مطأطئ الرأس إلى الأبد
وامتدّ الأمر لتأخذ العقوبات منحىً عملياً، ليضاف السودان إلى قائمة الدول الراعية للإرهاب، وكانت العقوبات على النظام، إلا أنّ المتضرّر الوحيد كان السودانيين (الشعب الصديق كما يصفونه!). أيضًا، سيقت الاتهامات، زوراً وكذباً، ضد مصنع الشفاء المتهم آنذاك بإنتاج أسلحة كيميائية وتصديرها إلى العراق. وقد كان المصنع يغطي قسمًا كبيرًا من حاجة البلاد للأدوية والمحاليل في ظلِّ حصارٍ جائرٍ على البلاد. آنذاك، أصدرت إدارة بيل كلنتون الأمر بضرب المصنع، تحت ذريعة تطوير مواد كيميائية لصنع الأسلحة. وفي أغسطس/ آب من العام 1998، استفاق السودانيون على هذه الكارثة، التي كانت بالتزامن مع الفضيحة الجنسية للرئيس كلينتون؛ فكان السودانيون ثمناً لإلهاء الرأي العام الأميركي عنها.
وفي الماضي، كان أمام حكومة الإنقاذ في السودان فرصًا ذهبية للتفاوض مع الأميركان مقابل الحصول على ضمانات لرفع هذا الحصار والعقاب، من دون أن تُستثمر بشكل جيد. فكانت مفاوضات نيفاشا، وحصل بموجبها الجنوبيون على حق تقرير المصير، وانفصلوا بالفعل، من دون أن يحصل السودان على مكسب يذكر؛ حيث بقيت العقوبات وبقي النظام في قائمتها. وتكرّرت الفرصة، في عالم قلّت فيه الفرص، عند قيام العملية العسكرية المدعومة من الناتو لإطاحة معمر القذافي في ليبيا. وأيضا، بعد الانتفاضة الشعبية، في ديسمبر/ كانون الأوّل 2018، التي أطاحت نظاماً عدواً للولايات المتحدة، مع صعود نخبة سياسية متماهية مع الخطاب الغربي إلى مقاعد السلطة. حينها، هلّل الجميع بالعودة لحضن المجتمع الدولي وكسر العزلة التي استمرت عقوداً ثلاثة. لكن رئيس الوزراء السوداني آنذاك عبد الله حمدوك، ومن خلفه لفيف من قادة "الحرية والتغيير"، ظنّوا أنّ التماهي مع مطالب الولايات المتحدة سيجعلهم نظاماً حليفاً في المنطقة، ويمنحهم التواصل المباشر معها، بما يسحب البساط من الإدارة المصرية في دورها وسيطاً في العلاقة مع السودان. بالتأكيد لم تطالب الحكومة السودانية بتعويضات عن تفجير المصنع الذي فاقم من مصائب البلاد، بل نفذت ما طلبته الولايات المتحدة قبل رفع العقوبات، ومن بينها تعويض ضحايا التفجيرات في السفارتين والمدمّرة كول، والتي تجاوزت 300 مليون دولار. بل، وفُرِض أيضًا على السودان التطبيع مع إسرائيل قبل تحقيق أيّ مكسب فعلي. ولم تكن إدارة حمدوك مكتوفة الأيدي كما يُصوّر الأمر؛ فقد كانت بين يديها المساومة بملف القاعدة البحرية الروسية في البحر الأحمر، لكن قوانا السياسية، أغلبها، تنظر إلى مسألة قيام علاقات شرعية رسمية مع دول غير حليفة للغرب كجريمة يجب التنكر لها من حيث المبدأ.
وأمّا في ما يخص النيجر، فلم تصدر الولايات المتحدة موقفاً واضحاً تجاه هذه التطوّرات بعد، لكنها قيد الدراسة كما صرّح مسؤولون. ومن المحتمل أن تُصعّد الولايات المتحدة تجاه النيجر، لكن الأرجح أن تدخل في تفاهمات مع النظام العسكري هناك. وقد تصحب هذه التفاهمات إعادة الولايات المتحدة دعمها العسكري، وخفض العقوبات عن النيجر، إن لم تكن إزالتها. في المقابل ستبقى القاعدة الأميركية في شمال النيجر لمتابعة ومكافحة الجماعات الجهادية في المنطقة، وعدم ترك الساحة للنفوذ الروسي للتمدّد، أو الاستفادة من موارد البلاد.
ربما تمضي التفاهمات في اتجاه آخر، لكن الذي لا يستخدم أوراقه، ويعجز عن قول لا؛ يبقى مطأطئ الرأس إلى الأبد.