مقتطفات من حوار مفقود مع فهمي هويدي (1/3)
يومها، لم يستغرب الكثيرون من قراء صحيفة (الأهرام) حين لم يجدوا مقال الكاتب فهمي هويدي منشوراً في موعده المفترض، يوم الثلاثاء من كل أسبوع، فقد تعودوا على حظر مقالاته من حين لآخر في تلك الفترة من نهاية تسعينيات الألفية الثالثة، قبل أن تفارق مصر عصر حظر المقالات إلى عصر حظر الكتاب والصحف والقراء، وكان من المتعارف عليه أن يبحث القراء والمهتمون عن مقال فهمي هويدي المحظور في إحدى الصحف الحزبية المعارضة التي تنشره كصحيفة (الشعب) التابعة لحزب العمل، الذي كان قد بدأ التحالف مع الإسلاميين منذ عام 1987 وانت نازل.
لم يكن غريباً أن تمتنع (الأهرام) عن نشر المقال دون أدنى اعتذار أو توضيح لقرائها، ولا أن يواصل فهمي هويدي كتابة مقاله في الأسبوع التالي دون أدنى إشارة إلى المقال السابق الذي تم حظره، وحين قرر أن يصدر في نهاية عام 1998 كتاباً بعنوان (المقالات المحظورة)، جمع فيه نخبة من مقالاته التي حجبتها (الأهرام)، لم يصدر الكتاب عن دار نشر مستقلة أو معروفة بموقفها المعارض، بل أصدرته دار الشروق التي كانت تنشر كتبه منذ سنوات طويلة، ولم تغضب صحيفة (الأهرام) من الكتاب، بل واصلت نشر مقالاته بانتظام، وواصلت منع بعضها بانتظام، وهو موقف برغم عبثه وسرياليته يعتبر موقفاً تقدمياً يحلم به جميع الكتاب الآن في عهد السيسي المؤمن بوجوب قطع الأذرع الإعلامية المناوئة أو المشاغبة أو حتى غير المجدة في التعريص والكذب.
في ظل تلك الأجواء التي تصالح الكل مع عبثها، كان من الغريب أن تقوم مجلة (روز اليوسف) بشن حملة شرسة على فهمي هويدي بعد مقال له لم تنشره (الأهرام) يهاجم فيه السفير المصري في صربيا، لكن هجومها لم يقتصر على ذلك المقال، وتحول إلى حملة استهداف شخصي لكاتب كان الكثيرون يختلفون معه بقوة، وكنت واحداً من هؤلاء الذين يختلفون معه بقوة، فقد سبق أن هاجمته في صحيفة (الدستور) بسبب موقفه من الدكتور نصر حامد أبو زيد، ومن رواية (الصقار) للكاتب سمير غريب علي، لكنني في الوقت نفسه كتبت معترضاً على حجب مقالاته في (الأهرام)، ووجهت له في أحد مقالاتي تحية ضمن عدد من الكتاب المستقلين الذين يمكن أن تختلف معهم دون أن تفقد تقديرك لهم.
عندما يُمنع لي مقال أقول ضاحكاً إنهم يساعدونني على إصدار الجزء الثاني من كتاب (المقالات المحظورة)
ربما لذلك قرر الأستاذ فهمي هويدي أن يتصل بي في فبراير 1999 ليطلب مني أن أجري حواراً معه في صحيفة (الجيل) حديثة الصدور للرد على حملة كان قد شنها عليه وزير الثقافة فاروق حسني، من خلال مجلة (روز اليوسف)، وحين استغربت اختياره لي برغم هجومي السابق عليه، قال بكل لطف إنه يحب أسلوبي في الكتابة ويحترم اختلافي معه، ويعتقد أنني أفضل من يمكن أن أحاوره لتصل أفكاره بأمانة إلى القارئ، لأنه لا يستطيع الدفاع عن نفسه في الصحيفة التي يكتب فيها. وكانت تلك المرة الأولى التي أُطلب فيها لعمل حوار صحفي، بدلاً من أن أطلب أنا إجراء الحوار، وبالطبع لم يكن ما قاله عني بلطف منه السبب الوحيد، فقد كنت في ذلك الوقت أشن هجوماً من حين لآخر على مجلة (روز اليوسف) وقيادتها الجديدة ممثلة في رئيس تحريرها محمد عبد المنعم، وعبد الله كمال أبرز مساعديه، وكنت أنشر هذا الهجوم في صفحة بعنوان (صحافة وإعلام) كانت مخصصة للنقد الساخر للأداء الصحفي الحكومي والحزبي، وقد حققت شعبية كبيرة، لكنها جلبت لي عداوات أكثر ظللت أدفع ثمنها بعد ذلك لسنوات، خصوصاً حين بدأت عملي في السينما.
ولأن نشر الحوار في صحيفة (الجيل) كان سيتسبب في حرج لرئيس تحريرها الدكتور ياسر أيوب، الذي كان لا يزال وقتها على قوة مؤسسة (الأهرام)، ومع أن فهمي هويدي الراغب في الاستمرار في الكتابة في (الأهرام) لم يهاجم إبراهيم نافع وتحدث عن صحيفته بانضباط شديد، إلا أن ياسر أيوب حرص على فرملة بعض ما كتبته في مقدمة الحوار، ولذلك اضطررت أن أقول في مقدمة الحوار كلاماً مشفراً من عينة "عندما تصبح الكلمة الأعلى في دنيا القلم والكتابة لألف سين وألف نون وسين راء يكون اسم الكاتب الشريف المحترم مرتبطا بالغياب والمنع أكثر من ارتباطه بالحضور والحفاوة"، في إشارة مني إلى إبراهيم سعدة وإبراهيم نافع وسمير رجب، ولأن (الجيل) كانت وقتها حاصلة على ترخيص قبرصي، وكان صاحبها رجل الأعمال عمرو مصطفى كامل يخشى أن تتعرض للغلق الذي تعرضت له صحيفة (الدستور) في عام 1998، فقد أصر على أن ينشر في نفس الصفحة التي نشر فيها حوار فهمي هويدي مقالاً للإذاعي حمدي الكنيسي بعنوان (مبارك دائماً يضرب المثل) بدأه بقوله "الرئيس حسني مبارك يؤكد في كل موقف وكل مناسبة أن الله حباه بصفات خاصة كنا وكانت الأمة العربية في أمس الحاجة لها، فهو يتمتع بفضيلة الصبر والهدوء والسيطرة على انفعالاته مهما كانت عوامل الإثارة والاستفزاز". وجاء مقال حمدي الكنيسي بمثابة التعويذة التي منعت الرقابة من الاعتراض على مضمون العدد وأجازت مواده للنشر، وعلى رأسها حوار الأستاذ فهمي هويدي الذي بدأته بمقدمة قصيرة أشدت فيها بمواقفه المستقلة والمعارضة، وأكدت على اختلافي مع بعض مواقفه، وأشرت إلى كتابه (المقالات المحظورة)، ونددت باستمرار حظر مقالاته في (الأهرام)، ثم نشرت الحوار الذي كان نصه كالتالي:
ـ بعد عدد من المعارك المتلاحقة والمقالات المحظورة، ألا تشعر ككاتب أنك بحاجة إلى الهدنة، على الأقل حتى يستطيع قراؤك قراءتك بيسر وسهولة؟
بالطبع أنا لا أسعى إلى المعارك ولا أتمناها، ولكن يبدو أحيانا أنك إذا قررت أن تكون كاتبا مستقلا، عليك أن تدفع ثمن استقلالك غاليا، مع العلم أنني لست من أهل الكتابات النارية المهيجة أو التحريضية، ولو حاولت أن أمارس هذا النوع من الكتابة لفشلت، فأنا مقتنع بأن كل إنسان ميسر لما خلق له، لكن هناك قضايا وأحداث تجد نفسك لا تستطيع إطلاقا أن تمنع نفسك من الكتابة عنها حتى لو كنت متأكداً أن ما تكتبه لن ينشر، لكن ولاءك للقارئ، والذي نشأ بعد 41 سنة خدمة، يجعلك تكتب ما تعتقده حتى لو حدث ما حدث، يعني مثلا عندما يتسمم آلاف التلاميذ بوجبات غذائية فاسدة وتجد أنه لا أحد في الصحافة القومية يكتب ضد هذا الفساد، يكون من واجبك حتى أن تكتب حتى لو تم منع ما كتبته.
وللعلم أنا دائما أحرص على احترام الخطوط الحمراء أو مراعاة السقف كما يسمونه، ومع كل مقال أكتبه أتحرك في حدود الهوامش المتاحة محاولاً استغلال حدودها القصوى للوصول إلى خط التماس، وحتى عندما أشعر أنني وقعت داخل الخط الأحمر، أراهن ولو على نسبة 1 في المئة، أحيانا أكتب المقالة وليس فيها سوى سطر واحد هو الذي أضع فيه أقصى ما يسمح بقوله، وأثق في ذكاء القارئ الذي سيفهم هذا ويقدره، وأكتشف أنني كنت على حق. بالمناسبة لو سألتني عن الخطوط الحمراء التي حدثتك عنها ستدهش لو قلت لك أنني لا أعرفها بالتحديد ولم يبلغني بها أحد يوما ما، والسبب أنها خطوط غامضة هلامية عليك أن تعرفها لوحدك، أحيانا يمنع لك مقال ليس لأنك متجاوز، ولكن لأنه الذي قرأه يصنفك على أنك كاتب خطر فيؤول كل كلمة تأويلا آخر، مع أن أغلب المقالات المحظورة ليس فيها اقتحام شرس للخطوط الحمراء. يعني أنا باتكسف لما الناس تسألني لأنه ما فيش بطولة فيما أكتب ويتم منعه، مش عايزين يدوني فرصة البطولة (يضحك).
ـ أستاذ فهمي، أريد أن أعرف كيف يتم بالضبط إبلاغك بمنع المقال، وعلى طريقة مذيعات التلفزيون المصري اسمح لي أسألك شعورك إيه وقت منع المقال؟
(ضاحكا) أنا نفسي مرة أنشر صورة للمقالة بتاعتي وهي متشطبة بثلاثة خطوط مختلفة، تجد فقرة متأشّر عليها بقلم أحمر وفقرة أخرى بقلم أزرق وفقرة ثالثة بقلم أسود، وكل واحد يقرأ يضع علامات على ما يجده متجاوزا للخطوط الحمراء في رأيه، وطبعا تجد في ركن جانبي قلم آخر وقد كتب التأشيرة التقليدية "يؤجّل. صدقني أشعر بإهانة عندما يتصلون بي أحيانا صباح يوم الإثنين ليسألوني: "عندك مقال تاني"، لأني لم أتعود أبداً على أن أكتب مقالين، خاصة ونفس المقال الذي يُنشر في الأهرام يُنشر في نفس الوقت في صحف أخرى في الكويت والإمارات وقطر والبحرين وغيرها.
ـ ولا أحد يمنعها هناك؟
بالطبع لا، تصور. صدقني أنا لا أمانع أن يكون هناك اعتراض عند مسؤول التحرير على ما أكتب، من حق مسئول التحرير أن يكون له حساباته ومصالحه التي يحرص عليها، أنا أقبل أن أكتب بنسبة حرية تصل إلى 10 في المئة و5 في المئة كمان، لا مانع، لكن غير معقول أن تعطيني حرية بالسالب ثم تريدني أن أكتب. طبعا في الماضي حدث أن طُلِب مني أن أكتب في اتجاه معين، أصبحت أطلب فقط ولو حتى خمسة في المئة لأكتب ما أريده، الغريب أيضا أنني لا أناقَش في مضمون المقال الذي يُمنَع ولا أعرف حتى أسباب منعه، ولا يبلغني أحد بأنه ممنوع، أبلّغ دائماً أن المقال مؤجل، وبالطبع يتم تأجيله إلى الأبد، لكن على أي حال عندما يُمنع لي مقال أقول ضاحكا إنهم يساعدونني على إصدار الجزء الثاني من كتاب (المقالات المحظورة).
...
نكمل غداً بإذن الله