مشاهد من النزوح في بيروت

20 نوفمبر 2024
+ الخط -

يقترب لبنان من شهره الثاني من العدوان الإسرائيلي الذي طاول مختلف المناطق، والذي شكّل فيه النزوح أحد تداعياته الصعبة والمؤلمة، فقد خرج أهالي الجنوب والبقاع والضاحية الجنوبية لبيروت من منازلهم، وتوجّهوا إلى ما يعتبرونه مناطق آمنة، ومنها العاصمة بيروت التي استقبلت جزءاً كبيراً من النازحين، والتي أصبحت ضمن دائرة الاستهداف الإسرائيلي في الآونة الأخيرة لأكثر من مرّة، ليحوّلها الاحتلال إلى منطقةٍ غير آمنة.

في بيروت، ترى الشوارع مزدحمة بالنازحين، وكم آلمني في بداية العدوان أن أجد عائلات على الطريق مع أغراضها الصغيرة التي حملتها معها من مناطق القصف، تفترش طرقات بيروت تسأل عن أماكن الإيواء للنازحين، وآخرين يتصلون بأقارب لهم نزحوا من قبل، وآخرين يسألون عن المدرسة الفلانية، وتشاهد في العربة أطفال وثياب، وآخرين يتوجّهون إلى مبانٍ مهجورة افتُتحت بعلم أصحابها، ويتفاوضون للسكن في غرفة أو شقة، وقد أثير في الإعلام منذ فترة إخراج نازحين بالقوّة من أحد المباني في بيروت بعد خلاف نشأ بين المالكين حول من سمح لهم بالسكن، وآخرين من المالكين اعترضوا.

أحاديث المقاهي 

أصبحت مقاهي الشوارع البسيطة ذات التكلفة المنخفضة موئلاً للنازحين. فأين يقضون نهارهم وهم عاطلون عن العمل ويتلقون المساعدات؟ تدخل إحداها لتستمع إلى أحاديث القرويين من الجنوب، منهم من ترك بيتاً، وآخر ترك أرضاً زراعية، وآخر ترك مصالحه التجارية، والسؤال الدائم: متى ستنتهي هذه الحرب؟

وتلك المقاهي لا ترتادها الإناث عادة، لكن بعد الحرب أصبحن من روّادها، فهي قريبة من مكان نزوحهن، وتكلفتها منخفضة، كما أصبحت مكاناً لاجتماع العائلة خارج صخب الزحمة في المدارس، والتي تفتقر إلى الحياة الطبيعية في أشياء كثيرة، ومنها مسألة الخصوصية.

تفتقر أماكن النزوح إلى الحياة الطبيعية في أشياء كثيرة، ومنها مسألة الخصوصية

في تلك المقاهي أستمع رغماً عني إلى قصص عديدة، منها نوعية الطعام الرديئة أو القليلة، التي تقدّم إلى النازحين، وقلّة ذات اليد، فضلاً عن افتقار تلك المنشآت إلى عدد كاف من الحمامات، والزحمة الشديدة والصوت المرتفع، حتى ذكر أحدهم أنه لم يعد يعرف طعماً للنوم كما في السابق. أما التزوّد بالمساعدات من الجمعيات، فتلك قصة مختلفة، منهم من يتسلّم حصة غذائية، وآخر يُحرم منها لعدم ورود اسمه مع تأكيده أنّه سجّل اسمه. 

في حديث مؤثّر، وربما يشير إلى الحالة التي وصل إليها النازحون، فقد اصطحبت معي كتاب "التقرير الاستراتيجي الفلسطيني (2022 -  2023) الصادر مؤخراً. كان عنوانه ظاهراً على الطاولة أمامي، فقال أحدهم (ربما مستلهماً من عنوان الكتاب أو من واقع حاله): "نحن ندفع ثمناً غالياً من أجل فلسطين". هو محق في قوله؛ لقد نزح من بيته، وأرضه، وعمله، بينما باقي الشعوب العربية لم تتأثر في ظلِّ تآمر عربي مفضوح وقمع لأي تحرّك.

أزمات اجتماعية خلَّفها النزوح 

لقد كان من تداعيات النزوح، ما أستطيع أن أطلق عليه "أزمات اجتماعية"، تبدأ من ظاهرة التسوّل التي انتشرت بشكل كبير، رجالاً ونساءً وأطفالاً وحتى شباناً . تلتقي بهم وبهنّ في الطرقات، والدكاكين، وفي المقاهي. أحدهم يبدأ حديثه (صادقاً أم مدعياً؟): "أنا نازح وبحاجة إلى مساعدة".

أيضًا، ثمّة امرأة في الثلاثينيات من عمرها، ترتدي ملابس لائقة دخلت مقهى أجلس فيه، وتوجّهت إلى عائلة نازحة من رجل وامرأة وطفل، كانت تجلس في المكان تشرب قهوتها الصباحية، وتحاول أن تتنفس الصعداء، حيث المرأة تشتكي لزوجها من السكن في المدرسة، والرجل يهدئها... توجّهت المتسوّلة له، ليرد على سؤالها: "صدقيني نحن نؤمن لقمة العيش بشق الأنفس"، أخذت ما جاد به روّاد القهوة، لتكمل جولتها، ولأعود وألتقي بالمتسوّلة نفسها في اليوم التالي.

يهرب الرجال طوال اليوم خارج المدرسة أو المأوى ليعودوا في الليل، بحيث تصبح المدرسة مكاناً للنوم فقط، وهو ما يمثل هروباً مرّاً من الواقع

امرأة أخرى تشتكي لزوجها من كثرة "الجلي" فهي لا تغسل الصحون لمنزلها فقط كما كانت في السابق، بل تغسل صحونها وصحون عائلات أخرى في المدرسة التي أوت إليها مع عائلتها، فكلّ شيء أصبح بالقسمة، الطعام والغرف وكذلك "الجلي".

يهرب الرجال طوال اليوم خارج المدرسة أو المأوى ليعودوا في الليل، بحيث تصبح المدرسة مكاناً للنوم فقط، وهو ما يمثل هروباً مرّاً من الواقع.

أما فيما يتعلّق بخصوصية الزوج والزوجة، فقد انتشر على مواقع التواصل الاجتماعي استهزاء إحداهن من طلب نازحة، أسرّت إلى امرأة مشرفة على مركز إيواء أنّها بحاجة إلى غرفة لساعتين مع زوجها، وإذا أمكنها مساعدتها، معتبرة طلبها خارجاً عن مألوف ما يسمّى نزوحاً، وكأنّ المفترض بالنازح أن ينسى/ تنسى أنّ لديه/ها زوجة، أو زوج.

من يصدّق الأميركيين؟ ومن سيكبح جماح نتنياهو؟ فهل سيستمر النزوح؟ وهل سيعود النازحون؟

أمّا أماكن لعب الأطفال في بيروت فهي صعبة وغير متوفرة، نظراً للتكلفة المالية، وإغلاق الحدائق العامة، كحديقة الصنائع الشهيرة في بيروت، حتى لا يأتي إليها النازحون، فضلاً عن التدريس عن بعد الذي يشكّل أزمة أخرى، ليس للطفل بل لأهله، عن تحقيق الإفادة المطلوبة، والمطالبة بالأقساط، وتأمين الجو الملائم للدراسة، وتوفير الإنترنت والهاتف وغيرها من الأمور.

الآن يكثر الحديث عن قرب الوصول إلى اتفاق بين الاحتلال الإسرائيلي ولبنان برعاية أميركية، فالمندوب الأميركي آموس هوكشتاين، والمدعوم ترامبيًا، يصرّح بين الفينة والأخرى عن سدّ الفجوات واحتمال التوصّل إلى اتفاق ينهي الحرب، وهو حديث الناس، لكن للأسف تجربة غزّة ما زالت ماثلة أمامنا، فمن يصدّق الأميركيين؟ ومن سيكبح جماح نتنياهو؟ فهل سيستمر النزوح؟ وهل سيعود النازحون؟

 أسمع أحدهم يقول وهو ينتظر الأخبار على شاشة التلفاز: أريد أن أرجع إلى بيتي، ومصلحتي، وأريد عودة أولادي إلى مدارسهم؟

هل يعود؟ هذا ما ستجيب عنه الأيام المقبلة.