نصف لاجئ
أحمد الصباهي
بعد مرور أكثر من شهرٍ على نزوحي من منزلي في الضاحية الجنوبيَّة لبيروت، تغيَّرت أشياءٌ كثيرة، فلم يعد باستطاعتي الاستيقاظ باكراً للذهاب إلى العمل، فاخترت الدوامات التي تبدأ من ساعات الظهيرة إلى المساء. لقد تغيَّر فراشي، وتغيَّرت صباحاتي.
تغيَّرت حياتي بعد أن كانت ثابتةً وربما رتيبة، لكنها مستقرَّة، كنت معتاداً على النهوض لما أعتبره باكراً لأبدأ نهاري، فما أن تمرَّ عليَّ الساعة العاشرة أو الحادية عشرة حتى أعتبر أنَّ نهاري قد ضاع، أما اليوم فالأمر مختلفٌ في المنزل الجديد. لم أكن أقضي جلَّ وقتي في الضاحية، لكنها كانت منزلي، في دكاكينها، ومطاعمها، وبائعي الخضار، ومصبغة الثياب، ومكتباتها، وفي صخبها أيضاً، فهي من أكثر المناطق اكتظاظاً في لبنان، حالها كحال غزَّة.
بعد مرور أكثر من شهر، لم أعد أعلم شيئاً عن جارنا الفلسطيني، والذي لم أحفظ اسمه، لأني كنت ألتقي به يومياً ربما فلم أجد حاجةً للسؤال، وهو ابن مخيَّم برج البراجنة، بائع الخضار والحشائش، الذي كان يجلس قُبالة المبنى الذي أقطن فيه، والذي كان يسألني بحكم عملي في الإعلام عن اليوم التالي، وماذا سيجري في غزَّة. أجيب عن الأسئلة بما أعرف وأحصل على الأسعار الخاصَّة، وفي بعض الأحيان يقول لي لا أشاهدك على الشاشة، وأعود لأشرح له كما شرحت له مرَّاتٍ عديدة، دوامي مختلفٌ عن دوامك، وينتهي الأمر بالضحك. ودارت الأيام، ويصبح الحدث لبنان، والضاحية الجنوبيَّة في قلب الاستهداف، لكن أين السؤال، وأين الجواب.
أما بائع "المحارم" ابن مخيَّم برج البراجنة أيضاً، والذي لم أحفظ اسمه كذلك، وكنت ألتقي به خلال عودتي من العمل يومياً، فكان يناديني من بعيد ويلوِّح لي، ويسألني عن السلطة الفلسطينيَّة، وتحديداً رئيسها "أبو مازن"، ماذا يفعل، ولماذا لا يتحرَّك، وماذا ينتظر، وللصراحة كان يتوجَّه له بالشتائم، وكنت أسكت وأضحك وأجيب بأجوبةٍ مقتضبة، لا أعلم أين أصبح الآن.
أما صاحب مصبغة الثياب أبو عمر، فقصَّته مختلفةٌ معي، فقبل النزوح من المنزل كنت قد وضعت لديه ملابسي، وانتقلنا إلى المنزل الجديد، وانتقل هو من مصبغته في الضاحية إلى منطقة الناعمة، وبقيت الملابس في الضاحية حبيسة شهر، إلى أن استطاع الرجوع إليها وغسلها وكيِّها وتسليمها لي في بيروت، لأسلِّمه ملابس جديدة بعد نزولي إلى الضاحية كون رائحة البارود قد عشَّشت فيها، والآن لديه ملابس جديدة أيضاً، ولا أعلم مدى نجاعة أن أرسل ملابسي إليه من منطقةٍ إلى أخرى مع حرصي الشديد على التعامل معه، لكنَّ نزوله إلى بيروت قد يصبح خطراً ولا أفضِّل أن أكون سبباً لضرر أحد.
أما صاحب مكتبة فيلوسوفيا عبَّاس، وهو الصديق الذي تعرَّفت إليه خلال سكني بجواره سابقاً، وخلال تواصلي معه، فقد انتقل من الضاحية إلى منطقةٍ أخرى في بيروت، ومستمرٌّ بعمله ولا أعلم كيف. أدين لعبَّاس بالكثير، فمعظم الكتب التي اقتنيتها في السنوات الأخيرة كانت من مكتبته، وكان يعاملني معاملةً خاصَّة، ويقدِّم لي الأسعار الخاصَّة، وأقتني الكتب التي أريدها وأدفع لاحقاً، ومكتبته كانت فريدةً من نوعها نظراً لتنوُّعها، وإقامتها الأنشطة والفعاليَّات الثقافيَّة، وقبل انتقالي إلى سكن جديد اقتنيت من مكتبته كتاب الشهيد يحيى السنوار: "الشوك والقرنفل".
أما مطعم الخليل، والذي أصبح مغلقاً، فلا سكَّان في منطقة برج البراجنة، وهو المطعم الشهير في هذه المنطقة، وزبائنه الأوائل اللاجئون الفلسطينيُّون من أبناء المخيَّم، ويعمل لديه عمَّالٌ فلسطينيُّون وسوريُّون، التقيت خلال نزولي في الفترة الماضية بشابٍّ فلسطيني يعمل لديه بشكلٍ يومي، وهو يعتاش من عمله بإيصال الطعام الجاهز إلى الزبائن، والآن المطعم مغلق، وبلا عمل، هذه الشريحة من الناس التي تعتاش يومياً من عملها هي في حالةٍ صعبةٍ جداً، وليس لها معيل.
ولقد عرض عليَّ المساعدة عندما شاهدني أنقل أغراضي عندما نزلت إلى المنزل منذ أسبوع لأخذ الملابس الشتويَّة والكتب، ما كان ليفعل ذلك ربما لولا قلَّة المال، كنت قد شارفت على نقل معظم حاجياتي إلى سيَّارة التاكسي، ساعدني ودفعت له على استحياءٍ ما تيسَّر، وإلى الآن يخطر على بالي وأمثاله ماذا يفعلون بحياتهم.
محلُّ الحلاقة الذي أحلق فيه وأولادي مغلق، وولدي هو صديق ابن الحلّاق وزميله في المدرسة. لقد اضطررت للحلاقة بمحلِّ حلاقةٍ جديد، وتغيير الحلّاق بالنسبة لي مشكلة، خصوصاً أنَّ الحلاق الجديد لم يفهم ماذا أريد، وفعل الأعاجيب بشعري، وإلى الآن نادمٌ على تسليم شعري له، فما لي وموديلات الحلاقة الحديثة للشباب.
أما مدرسة الأولاد في الضاحية، فقد تعرَّض جوارها لقصفٍ عنيف، ولا نعلم شيئاً عن أساتذتها. نعلم أنَّهم سيبدأون التعليم عن بعد، لكن كيف؟ وهل كلُّ الطلاب النازحين لديهم الإنترنت والمكان المناسب للدراسة؟ وماذا بقي من أساتذتها، وأين هم. لقد التقيت صدفةً بناظر المدرسة في سوبرماركت في بيروت، الأستاذ محمَّد، الذي أخبرني بأنَّه غادر المدرسة إلى مدرسةٍ أخرى في بيروت، كان أستاذاً محترماً ولبقاً جداً، خسرته المدرسة، ولا نعلم إذا كانت ستبقى.
وفي زيارتي الأخيرة إلى المنزل في الضاحية، عدت بكتب الأولاد التي اشتريناها، ولا أعلم كيف سيدرسون فيها، وما مدى قيمتها، لأكتشف لاحقاً أنَّها أصبحت في حكم الملغاة، فالتدريس عبر الإنترنت سيكون عبر مناهج حكوميَّةٍ موحَّدةٍ على الإنترنت.
أما الباصات البيضاء التي كانت توصلنا من الضاحية إلى المناطق البعيدة في بيروت كالحمرا، فما عادت موجودة، وهي التي كانت عامرةً بالمتنقِّلين، وأجرتها رخيصة مقارنةً بالتنقُّل بسيَّارة الأجرة (التاكسي)، وأصبح سائقوها يصلون بها إلى أطراف الضاحية ويعودون أدراجهم، أين أصبح المتنقِّلون عبر الباصات، أين سكَّان الضاحية؟
أما ناطور بنايتنا رشيد، فكان آخر النازحين من المبنى، ولقد شهد القصف الذي طاول الضاحية، والضربة التي وُجِّهت لساحةٍ لا تبعد أكثر من 70 متراً عن العمارة التي نقطنها، ومع علمه أنَّ الضربة كانت قريبة، فلقد اختار البقاء، وكان ينام عند مدخل المبنى، لينتقل لاحقاً إلى مكانٍ آخر، وفي آخر اتِّصالٍ بيني وبينه أخبرني بأنَّه من وقتٍ إلى آخر ينزل إلى الضاحية ليطمئنَّ على المبنى، وقد اضطرَّ في إحدى زياراته إلى الاختباء عند أحد الجيران بعد قصفٍ إسرائيلي للضاحية خلال وجوده في ساعات النهار.
أما أبناء مخيَّم برج البراجنة من اللاجئين الفلسطينيِّين فما زال الكثيرون منهم موجودين فيه، ولقد خرج العديد منهم، ومنهم والدتي وإخوتي، نظراً لأصوات القصف العنيف والروائح الكريهة التي تخلِّفها الصواريخ الإسرائيليَّة، إلا أنَّ المخيَّم ما زال صامداً، يعيش فيه أبناؤه اللاجئون الذين يعيشون العدوان الإسرائيلي من جديد، كما عاشوه في العام 2006، وأهاليهم في الماضي والحاضر منذ ما قبل النكبة وما بعدها، حتى يومنا هذا.
هي الضاحية، التي عشت فيها منذ العام 2011 إلى الآن، ونزحت منها، ما زال النزول إليها ممكناً. أما أهلنا في غزَّة، فما عايشوه وما زالوا هو شيءٌ يفوق الخيال، ولا نستطيع بأيِّ حالٍ من الأحوال مقارنة ما عايشه أهلها بما يجري في لبنان على صعوبته وتحدِّياته. المشهد الوحيد الذي يشبه غزَّة هو ما يجري في جنوب لبنان، في القرى اللبنانيَّة الحدوديَّة التي سوَّاها الاحتلال بالأرض، ودمَّر كلَّ ما فيها، لكن لم يستطع تدمير مقاومتها، فما زالت صامدة.