مساهمات مصطفى حمارنة في تغيير "البنى المتصلبة"
من المعلوم أن التيار المتصلب راهن كثيرا على الورقة العشائرية طوال المئوية الأولى؛ لكونها الأسهل من حيث الإرضاء، ولتمتعها بتراتبية يسهل احتواؤها والسيطرة عليها؛ حيث كان كافيا منح شيخ العشيرة بعض المزايا لكسب ود الأفراد الباقين، في ظل حرمان عشيرة أخرى أقل تراتبية.
ومع مرور الوقت برزت العشيرة كآلية أولية للانتماء والشعور بقيمة الرابطة، إضافة لقدرتها على احتواء وتذويب طموحات الأفراد داخل أطرها الضيقة، الأمر الذي أدى إلى ترفيع بعض الشخصيات القبلية التي مارست عملية "التنفيع" لدى قواعدها الشعبية، وذلك عبر استغلال مكانتها في قدرتها على التأثير.
من هنا، مثلت أزمة النائب الأردني المفصول أسامة العجارمة الأساس المعرفي لفهم السياقات العامة للاستدعاءات العشائرية عبر لملمة الملامح الخطابية التي استعملها الرجل أثناء ثورته المزعومة، أو عبر الاستدعاءات القبلية المساندة لخطه السياسي، المتجلية في المساعدات المستعجلة، أو التي قدمت الرجل بصورة الفارس الذي لا يشق له غبار. جرى هذا الأمر رغم تحذير الكثيرين من خطر "الهويات الفرعية" على المجتمع. وكان من بين هؤلاء المحذرين الباحث والنائب السابق مصطفى حمارنة.
على الرغم من التأثيرات السلبية للمظاهر العشائرية إلا أن استمرارها مثل ركيزة صلبة في مواجهة التحديث
ضمن هذا السياق، كانت كلمة مصطفى حمارنة في مجلس النواب، قبل سنوات، تمثل شجاعة معرفية في وجه الخطوط المقدسة اجتماعيا، إذ إنها اتخذت مبدأ المصارحة وعدم تزييف الواقع بمعطيات لا تمت له بصلة، فتحدث عن الفساد المتأتي من الصيغ الاجتماعية، وقارن على أساسها نسب الفساد الفعلية، وكيفية استغلال العشائر لهذا الوضع. وما إن انتهى مصطفى حمارنة من مداخلته حتى وجد عبد الكريم الدغمي (رئيس مجلس النواب الحالي) يهاجمه في كلمة مطولة، شرح فيها ما شرح من توصيفات واتهامات لعبت على الأوتار الحساسة في المجتمع.
وفور انتهاء الدغمي من كلمته، صفق النواب له بشكل متواصل في الوقت الذي منع فيه الحمارنة من الرد على الكلام الموجه ضده، ضمن حقه بالدفاع عن نفسه. ولم تتوقف الحملة عند هذا الحد، إذ جندت أقلام بارزة لمهاجمة الرجل، فقط لأنه تحدث عن ضرورة التغيير وتجديد منظومة الحكم بما يتناسب مع الدول الحديثة القائمة على عقد اجتماعي يكون فيه الجميع تحت مظلة القانون، ورغم ذلك استمر الهجوم على الرجل بذرائع شتى، الأمر الذي يذكرنا بالهجوم الذي تعرض له الكاتب والمفكر صادق جلال العظم، عندما استخدم مبدأ المكاشفة في تحليل أسباب هزيمة حرب يونيو/ حزيران عام 1967، حيث بدا الأمر صادما أن يتجرأ أحد الكتاب على انتقاد الثقافة الجمعية. وعليه لم تكن "الهوجة" التي حصلت في مجلس النواب إلا رسالة من "التيار المتصلب" تجاه دعاة التغيير.
اليوم، أدركت الدولة بكافة مؤسساتها صدقية ما تحدث به مصطفى حمارنة، لا سيما مع تزايد المطالب الفئوية المغلفة بالأطر الاستحقاقية، من باب وجوب رعاية الدولة لفئات بعينها، بالتوظيف، والتدريس، والاستحواذ على كيانات بأكملها؛ إذ يتمثل الدور الاستحقاقي ضمن تجليات "النظرة الأبوية" المتمركزة بكثرة في الأنساق العشائرية، ضمن تصور بسيط عن الدولة يتبلور على شكل مطالبات لا تنتهي، دون القدرة على فهم المعطيات المتوفرة.
إن الرهان على الهويات الفرعية، سواء لاستعمالها في تدعيم "التيار المتصلب"، أو حتى لتشتيت ممارسات التجمع، أدت إلى تضعيف الدولة، من حيث قدرة هذه الهويات على إنتاج حراكات بلا سقوف.
وعلى الرغم من التأثيرات السلبية للمظاهر العشائرية، إلا أن استمرارها مثل ركيزة صلبة في مواجهة التحديث، وتأسست بمقتضاها "تمظهرات" متصلبة ترفض أي طرح يشجع على التفكير النقدي، أو التحلل من العباءات القبلية المقيدة للتطلعات الإنسانية، ناهيك عن ارتباط هذه المظاهر بمفاهيم متحجرة ساهمت في انتشار العنف القائم على النوع الاجتماعي، بحجة المحافظة على "الشرف"، المتعلق فقط بجسد المرأة!
إن تأطير الثقافة العشائرية ضمن الفضاء السياسي للدولة، واستبدالها برابطة أكثر قوة، قائمة على احترام الممارسات الفردية، سوغت لأصحاب الامتيازات الطبقية رفض ما يتأتى من مصطفى حمارنة، بوصفه النقيض الفعلي للبنى المتصلبة والأكثر تعبيرا عن التيار الحداثي. هذا الرفض لم يكن سهلا على الإطلاق، حيث مورس على الرجل أقسى أنواع النقد، ووصل الأمر إلى حد اتهامه بأنه "عميل" يهدف لترسيخ "الوطن البديل"! فقط لحديثه عن بعض حقوق الفئات المهمشة، وعليه، كان التغيير الحاصل في البنى المتصلبة يمثل استجابة ضرورية في وجه الأزمات المتوقعة، خصوصا مع نفاد قدرة الدولة على تقديم المنافع كما في السابق.