محكمة غزة

27 يناير 2024
+ الخط -

ليس كلامًا شعبويًّا، ولا عاطفة جيّاشة تُعمي العقل أحيانًا، بل هو عين العقل ألا تُؤمن بالقانون الدولي، وألّا تسلّم بالعدالة الانتقائية، وألَّا تعتمد على محاكم العواصم الأوروبية في جلب حقك أو إنصافك أو إنهاء مذبحتك، ستفيد هذه المحاكم فيما بعد بالتأكيد، ربّما في التضييق على الجاني، في اتهامه بالإبادة، في وصمه بما يستحقه من الإجرام، لكنها مراحل ما بعد مسح الدماء، ولملمة الأشلاء، وانطفاء الدبابات، وأكل الدود في الجثث المتحلّلة، لن يوقف أحدٌ ذلك ما دام الجيران مستأجرين، وستبقى غزّة وحيدةً من أصحاب السموّ والرؤساء والزعماء والقادة وصنّاع القرار، باستثناء الشعوب الحرّة التي تشعر بالغضب والعجز على الأقل، وتتمنى لو تقطع الطريق إلى غزّة مشيًا على الأقدام، وهرولةً، وجريًا، حتى يدخلوها مناصرين، لكن الحدود، وحرّاسها، يحولون دون تجاوز "الموقف الحر" إلى "الفعل المحرًّر".

حكمت محكمة العدل حكما "استثنائيًّا" في تاريخ القضية الفلسطينية، لكنه حكم "انتقائيٌّ" في تاريخ منظومة العدالة الدولية، سيفرح الفلسطينيون على المستوى الحقوقيّ به كثيرًا، لأنّه يمهّد للجرأة على اتهام الكيان الوهمي المنتفخ إسرائيل بالإبادة، لكن العدالة نفسها ستبقى تراقب المشهد ضاحكةً، حين تتذكّر حمية المحكمة نفسها حين قضت بضرورة الوقف الفوريّ لإطلاق النار في أوكرانيا، ولأنّ غزّة ليست أوكرانيا، ولأنّها حقيقة لا عقدة نفسية، ولا نقص نتذرع به، فإنّ دماء الفلسطينيين ليست بذات الأهمية؛ خصوصاً أنّ الشيء الفوريّ الوحيد الذي طالبت به المحكمة واحدًا من "طرفي النزاع" هو أنّ "إطلاق الرهائن" غير المشروط، بعيد تماماً عن وقف إطلاق النار غير المشروط أيضًا، الذي كان صعبًا على المحكمة أن تتفوّه به، فلم تقل شيئًا، وإنّما اكتفت بمطالبة إسرائيل بالتقدّم بالأدلة الكافية على اتخاذ الإجراءات اللازمة لتجنّب الإبادة، خلال شهر من الآن.

شهرٌ يا إسرائيل، لتنهي تلك المهزلة، ولتنتهي من الإحراج الذي تسببينه لنا جميعًا، أما كان بإمكانك الشروع في مقتلة أو مذبحة أو مجزرة دون انتهاك للقانون الدولي؟ هل كان من الضروري تحويل شلال الدماء إلى "إبادة" جماعية؟ لو كانت إسرائيل تقتلهم دون تجويعهم جماعيًّا وعقاب مواطني غزّة بقطع الماء والغذاء والدواء والكهرباء، لو كانت تقتلهم بالرصاص وحده، وبالغارات فقط، ربّما لم تكن المحكمة لتلتفت أصلًا، ولكن مشكلة المجرم أنّه أحدث الكثير من الصخب خلال تنفيذ جريمته، فاضطرت المحكمة آسفةً لاتخاذ إجراءات، والتشكيك بأن إسرائيل (بناءً على أدلة الاتهام الصارخة) ربما، تقريبًا، يمكنها، أن ترتكب عملًا من أعمال "الإبادة" حسب تعريف القانون الدوليّ.

لا ينجيك من مذبحتك أو يثأر لك على إثرها إلا شرف مقاومتك، ولا ينتشلك من بركة الدماء التي تسيح فيها إلا الزناد الذي تضغط عليه

والحقيقة التي نخلص إليها، أنّ القانون الدوليّ يمكنه لعب دور جانبي هامشيّ فيما بعد، لكن لا يخلصك من عدوك إلا سلاحك، ولا ينجيك من مذبحتك أو يثأر لك على إثرها إلا شرف مقاومتك، ولا ينتشلك من بركة الدماء التي تسبح فيها إلا الزناد الذي تضغط عليه، أن تثخن أنت في عدوّك حتى يلفظ آخر أنفاسه، وأن تقيم أنت دولتك بذاتك لا باعتراف أحد آخر، وأن تسعى حرًّا مستقلًا شريفًا نبيلًا إلى غايتك، دون أن تأخذ إذنًا ولا أن تنتظر موافقةً، أن تملك استقلالية قرارك، وسلاحك، وتصنيعه، وإطلاقه، واستخدامه، حتى تقتص ممن قتل جدك وأباك وأختك وابنك وابنتك، وممن هجّر الفلسطينيين من قراهم ومدنهم قبل ثمانين عامًا بالسكاكين، وممن سرق ودنّس تلك الأراضي الطاهرة، على مدار كلّ تلك العقود، أن تأخذ حقك بيدك وحدها، وأن ترفع علمك فوقها بساعدك وحده، ذلك هو القانون الدوليّ الحقيقيّ، الذي يجبر الجميع على الاعتراف بك رغم أنوفهم، بقوة الله، وبضمائر الشعوب الحرّة، غير الخاضعة لهيمنة الرجل الأبيض الذي ينظر لنا جميعًا بدونيّة تجاهنا وبفوقية تجاه نفسه.

تلك هي محكمة غزّة؛ المحكمة الوحيدة التي نعرفها في تلك المسألة، التي يخرج فيها القاضي من فتحة نفق غائرة في رحم الأرض، ليقول حكمه النهائيّ، بمطرقته من ماركة الياسين 105، وبصوته الجهوريّ "فجّر وكبّر"، الذي يلعن بين أحباله وسطوره المختصرة.. أختَ إسرائيل!