محاورة: في معنى التضامن
منصورة عز الدين
(هذا النص هو الرابع والأخير من أربعةِ نصوصٍ، تشكّلُ بمجموعِها محاورةً بين الروائيةِ السورية روزا ياسين حسن والروائية المصرية منصورة عز الدين، وتتمحورُ حول الكتابة وجدواها في عالمٍ فقدَ إنسانيته. يمكن قراءة النص الأول، والثاني، والثالث)
عزيزتي روزا،
في طفولتي ظَننتُ لفترةٍ طويلةٍ أنّ الروايات يجب أن تدور أحداثها في مدنٍ مثل باريس ولندن وموسكو ونيويورك، وأن يحملَ أبطالها أسماء من قبيل: ديفيد وإيفان وأوليفر وإليزابيث. اعتدتُ، وقتذاك، التهامَ أعمال تشارلز ديكنز ومارك توين وتشارلوت برونتي وجين أوستن وتشيخوف وتورجينيف، وكلّ ما تصل إليه يدي من قصصٍ وروايات لكُتَّاب تَصادف أنّهم جميعًا أوروبيون أو أميركيون. أتذكر أنّني كنت متآلفةً تمامًا مع مفرداتِ الحياة الروسية كما قرأتُ عنها، وعندما جرّبتُ أن أكتبَ قصةً بدائيةً أولى منحتُ لبطلها اسم إيفان وجعلته يسير في شارعٍ باردٍ في سان بطرسبرج ويتناولُ حساءَ الملفوف ويستخدم السماور، رغم أنّني لم أكن قد رأيت واحدًا من قبل، وفهمتُ وظيفته من السياق وحده. ثم حدث أن تعرّفت على أدبِ نجيب محفوظ في المرحلةِ الإعدادية، لأقرأَ أعمالًا تدور في أماكن مألوفة ويشبه أبطالها مَن أعيش بينهم تمام الشبه. قرأتُ بعدها إبداعات لكتّابٍ عرب وأفارقة وآسيويين ومن أميركا اللاتينية، ومع كلّ كاتبٍ جيّدٍ اكتشفته من هذه الأماكن، كانت معرفتي تتعمّق بتعقّدِ عالمنا وتناقضاته ولا نهائيةِ وجوهه. حدث كلّ هذا قبل أن أتعرّف لاحقًا على ما بعد الكولونيالية ونقدِ الاستشراق، وقبل أن أبدأ في استقاءِ معارفي وخبراتي من مصادر أخرى بجانب القراءة.
حين أفكر في ذاتي الطفلة، المُقيمة في قريةٍ صغيرة في دلتا النيل، لكن مخيّلتها مسكونة ببقاعٍ ثلجية وشخصيات روائية غربية وتفاصيل من المؤكّد أنّها تزيد من انفتاحها على الآخر ومن معرفتها به، لكنها أيضًا تزيدُ من اغترابها عن محيطها، كونها لم تكن قد اطلعت بعد على تراثه وثقافته عبر القراءة، ومن المؤكد أنّها تشحذ قدرتها على التعاطف والتضامن الإنساني مع المختلفين عنها، لكنها أيضًا تُشوِّشُ رؤيتها فيَخفى عليها ما قد تنطوي عليه بعض الأعمال الإبداعية من بنى عنصرية مُضمرة ضدَّ الثقافات غير البيضاء، حين أفكر في تلك الطفلة، يستدعي ذهني أمثال هومي بابا وفرانز فانون، وإدوارد سعيد وغاياتري سبيفاك، ويتعمّق فهمي لما قصده نيغوجي واثيونغو حين كتب: "من هنا كانت اللغة والأدب يأخذاننا أبعد فأبعد عن أنفسنا، نحو نفوس أخرى، من عالمنا إلى عوالم أخرى".
استعمار العقل والمخيّلة لا يقل خطورة عن الاستعمار التقليدي
تجربةُ واثيونغو مختلفة بالتأكيد، ومقدار الاغتراب الذي يُشير إليه أشدُّ وأقسى، كونه اقترن بتبني لغة الآخر والكتابة بلسانٍ مستعارٍ منه، لكن جوهر الحالتين واحد: يمكن للقراءة، وهي نشاط مُحرِّر بامتياز، أن تؤدّي إلى نوعٍ من الاستلاب إن لم يتحلّ القارئ برؤيةٍ نقديةٍ وعينٍ قادرةٍ على استقراء المضمر بين السطور، ويمكن للّغة أن تصبحَ أداةَ استلابٍ وسيطرة. هذا بخلاف أنّ الخيط الرابط بين الحالتين هو مركزية الغرب في مقابل تهميش ممنهج ومتواصل للثقافات الأخرى.
لكن عليّ التأكيد هنا على رفضي الركون إلى التقسيمات الحدّية من قبيل: أبيض وأسود، عنصريين غربيين وضحايا شرقيين للعنصرية. ليس فقط لأنّ هذه الثنائيات المانوية ساذجة، وإنّما بالأساس لأنّها مضلّلة ولا تعكس تركيب الواقع وتعقيداته. لقد تحدثتِ عن التمييزِ الممنهج الذي تواجهه امرأة ملوّنة في المركز الأبيض، ومن حسن الحظ أنّكِ واعية للتقاطعات والدقائق المتوارية في هذا الشأن، من هنا أثق بأنّك لا بدّ منتبهة لدورِ بعض غير البيض في تكريس تلك الممارسات، أو على الأقل تبريرها. أقصد من يرسخون (من بيننا) الصور النمطية عنّا، مَن يعتبرون أنّ أفضل إنجازاتهم يتمثّل في الانتقالِ إلى الضفة الأخرى؛ ضفة المستعمِر السابق، مَن يُسخِّرون كتاباتهم لتحويل أنفسهم إلى مخبرين محليين (Native informers).
إنَّ استعمارَ العقل والمخيّلة لا يقل خطورة عن الاستعمار التقليدي، وفي رأيي أنّ أوّل خطوات إقامة علاقة متوازنة وصحيّة مع الآخر تبدأ بتفكيكِ هذا الاستلاب وتصفيته، وبالكفِّ عن الترديدِ الببغائي لرؤى الآخرين عنّا. تخيلي يا صديقتي امرأة أخرى تتعرّض للعنصرية والتهميش، وتُمارس عليها ألعاب ذهنية وتلاعبات رامية لإشعارها بأنّها ليست ندًّا ولا يحق لها أن تكون لأسبابٍ ذات علاقة بالجندر أو العرق أو الطبقة. تخيّلي أيضًا أنّ هذه المرأة المُفترضة لم تطوّر رؤيةً نقديةً تمكنها من التحليلِ والنقدِ وإبصار التمييزات الرهيفة ضدّها، ومن ثم تتبنى (كليًّا أو جزئيًّا) رؤيةَ الآخر الاستعلائية المُقلِّلة منها ومن ثقافتها، فهل سيكون في وسعها مقاومة هذا التمييز والتمرّد عليه؟ للأسف هذا حال الكثيرات والكثيرين في علاقتهم بالغرب، بعضهم يفعل هذا لغيابِ الوعي النقدي والبعض الآخر من بابِ الانتهازية والبحث عن مكتسباتٍ مُتوهّمة.
لا قيمة أرقى من التضامن الإنساني العابر للثقافات والأعراق والأديان، لكن ثمة فارق كبير بين التلاقح والانفتاح وبين الاستلاب
لا يعني هذا أبدًا الدعوة إلى الانغلاق على الذات، بل على النقيض من هذا، خلاص عالمنا من آفاته وأمراضه يبدأ من التلاقح الثقافي والانفتاح على الآخر، ولا قيمة أرقى من التضامنِ الإنساني العابر للثقافاتِ والأعراق والأديان، لكن ثمّة فارق كبير بين التلاقح والانفتاح وبين الاستلاب، والفيصل بين الحالين هو درجة الوعي بالذات، وبالثقافة التي ننتمي إليها في علاقتها بالثقافات الأخرى، إذ من المهم تعميق إدراكنا لأنفسنا وللعالم من حولنا بموضوعيةٍ وبعينٍ نقديةٍ متشكّكةٍ متسائلةٍ لا تركن إلى اليقينيات المُريحة ولا إلى هدهدةِ النفس ووسمها بما ليس فيها، سواء سلبًا أو إيجابًا.
وأنا أقرأ رسالتك، وجدتني أسأل نفسي: هل الإقامة في الغرب شرط لفهمِ التهميش الممنهج ضدّ غير البيض؟ مؤكد أنّ عيش أحدنا هناك، وتعرّضه مباشرة للعنصرية، سيعمِّق إحساسه بهذه الممارسات ويكثِّف من وضوحِ رؤيته لتلك التمييزات، لكن هذا يمكن أن يحدث أيضًا، على نحو ما، في حالةِ كونه كاتبًا يعيش في وطنه، لكن أعماله تُترجَم إلى لغاتٍ أخرى وتُقرَأ من قرّاءٍ غربيين ويشارك في مهرجانات دوليّة.
في هذه الحالة سيجد دومًا مَن يقرأ أعماله بعينٍ باحثةٍ عن الكليشيهات والصور النمطية والعناصر الإكزوتيكية، وإن لم يجدها فقد يخترعها. سيصادف، كما ذكرتِ، من يسأله أسئلة جاهلة، مثل تلك المرأة الخمسينية التي سألتني خلال قراءة أدبية في أوروبا، قبل عقدين، إن كنت أذهب إلى عملي بالجمل. لم أنفعل يومها ولم أدافع أو أشرح، اكتفيتُ بقول إنّني أربط ناقتي أمام مقرّ عملي، ليضجّ معظم الحضور بالضحك، في حين ظلّت هي تتابعني بنظراتٍ تائهةٍ غير مدركة أنّني أسخر من سؤالها.
خلاص عالمنا من آفاته وأمراضه يبدأ من التلاقح الثقافي والانفتاح على الآخر
الأمثلة كثيرة ومتكرّرة، ومعظمها لا يستحق عناءَ الرد، وكلّها يدعو إلى الشفقة على أصحابها، فالجهلُ بائسٌ أيًّا كانت جنسية صاحبه أو خلفيته، لكن الجهل النابع من عنصريةٍ منغرسةٍ في اللاوعي حدّ غفلة صاحبها عن كونه عنصريًّا، يضيف إلى بؤسه خبثًا وشرًّا.
أتفهم مشقة أن تكوني "امرأة لاجئة ملونة في قلب المركز الأبيض"، وإن أختلف معك في أنّ التمييزات التقاطعية لا يمكن الشعور بكنهها العميق ما لم أعش تشابك تمظهرات التمييز وتقاطعاتها بصفة لاجئةٍ ملوّنةٍ في الغرب. فتشابكُ التمظهرات المُضمرة واللا مرئية للتهميش وتقاطُعاتها لا تقتصر على تلك الحالة وحدها، ولعلَّ أهم ما قدّمته النسوية التقاطعية يكمن في قدرتها على كشفِ الجوانب اللا مرئية من التمييز ضدّ الفئاتِ المهمّشة، وإمكان استخدام أدواتها في تحليل أوضاع النساء وما يتعرّضن له من تمييزٍ في سياقاتٍ أبعد من السياق الأصلي الذي ظهرت فيه هذه الحركة، بحيث لا تنحصر فقط في حالةِ النساء الملوّنات في المجتمع الأميركي كما بدأت. وإن وسّعنا أفقَ رؤيتنا للنسوية التقاطعية، فسنراها تمثِّل رفضًا للتحليلات الأحادية والرؤى المبتسرة، وتقترح منهجًا قائمًا على التنوّع والتعدّد والإحاطة بأدق التفاصيل ما يتيحُ الوقوف في وجهِ التصنيفات المُسبقة والأفكار الجاهزة وتجاوز حدود السياسات الهُويّاتية.
هكذا يمكِّننا المنظور التقاطعي من فهمِ أنماط التمييز الدقيقة في مجتمعاتنا نفسها، وكيف يشكل كلّ من الجندر والطبقة والعرق والدين أو المذهب البنى التراتبية فيها. بالمثل يمكن استلهام دراسات التابع، لفهمِ آلياتِ التهميش في مجتمعاتنا، ولتفحّص أسئلةٍ متفرّعة من تساؤل غاياتري سبيفاك الشهير "هل يستطيع التابع أن يتكلم؟ لنسأل: هل يستطيع المهمشون، طبقيًّا وسياسيًّا واجتماعيًّا، أن يتكلموا؟ أو بالأحرى: هل يُسمَع صوتهم؟ كيف يمكنه أن يصل إلى دوائر أبعد؟ وحين يتكلّم أصحاب الامتيازات نيابةً عن التابع / المهمَّش، كيف نضمن ألّا يتحوّل هذا التمثيل إلى استيلاءٍ على الصوتِ ومصادرة له، يصبّان في صالحِ أصحاب الامتيازات ويكرّسان التهميش والإقصاء أكثر؟
في ظنّي أنّ التضامن الإنساني الصادق والفعّال، أي المتبوع بممارساتٍ عمليّةٍ مناهضةٍ للتمييز والتهميش والإقصاء، يمثّل الضمانة التي يحتاجُ إليها عالمنا حاليًّا. وكلّما كان هذا التضامن عابرًا للثقافات والأديان والأعراق، ازدادتْ قدرته على التأثير. وهذا هو ما نشهده حاليًّا في حالة قطاع غزّة، وما يعيدُ لنا جميعًا بعضًا من إيماننا بالإنسانية، في عالمٍ صارت أحداثه ووقائعه (في معظمها) محض تمريناتٍ على التوحّش وعلى اعتياده والتأقلم معه.
وختامًا أجد نفسي أردّد معك ومع طلاب جامعة براون: "أسمع صوت أغنية أجدادي تغني: استيقظ، استيقظ.. اسمع، اسمع...". من يدري! لعلّ هذه الترنيمة المُلهِمة تُحَفِّزُ عالمنا على الاستيقاظ من سباته والتمسّك بقيم العدالة والإخاء والتضامن الإنساني.
مع خالص محبتي،
منصورة.