محاورة: أغنية الحياة.. استيقظ.. اسمع.. قطعة من puzzle المنافي

01 يونيو 2024
+ الخط -

(هذا النص هو الثالث من أربعةِ نصوصٍ، تشكّلُ بمجموعِها محاورةً بين الروائيةِ السورية روزا ياسين حسن والروائية المصرية منصورة عز الدين، وتتمحورُ حول الكتابة وجدواها في عالمٍ فقدَ إنسانيته. تمكن قراءة النص الأول، والثاني)

عزيزتي منصورة:

قبل أن أجيبَ عن سؤالِك بخصوصِ قدرةِ الكتابة على مساعدتي في تذليلِ ما واجهني من عقباتٍ وصور نمطية في الغرب، أو كيف غيّر المنفى من كتابتي، أريدُ أن أحدّثك بدايةً عن التجربة الخاصة (الشخصية والعامة) الجمعية التي عشتها "هنا"، والتي أثّرت عليّ إنسانياً في العمق، وبالتالي أثّرت بشكلٍ كبيرٍ على كتابتي.

ثمّة ترنيمة جديدة أكاد لا أستطيع التوقف عن ترديدها: "أسمع صوت أغنية أجدادي: استيقظ، استيقظ.. اسمع، اسمع..." (Wake up, wake up...listen, listen). ترنيمة شدا بها مؤخراً طلاب جامعة براون في ولاية رود آيلاند الأميركية بعد إنهاءِ إضرابهم عن الطعام تضامناً مع فلسطين، وللضغطِ على جامعتهم لسحبِ استثماراتها وقطعِ علاقاتها مع إسرائيل. جامعة براون، كما تعرفين، واحدة من حوالي خمسين جامعة أميركية أعلنتْ الاعتصام في مخيّمات طلابية لوقف الحرب على قطاع غزّة، كانت جامعة كولومبيا بمنهاتن السبّاقة حين نظّم "ائتلاف نزع الفصل العنصري"، وهو يضم أكثر من 100 مجموعة طلابية من عربٍ ويهود وطلاب من مختلف الجنسيات والانتماءات الدينية والعرقية، عديد الاحتجاجات. 

"أسمع صوت أغنية أجدادي: استيقظ، استيقظ.. اسمع، اسمع..."

أحسّها صرخةً تُطلق اليوم في الكون، امتداداً لصرخات مشابهة خرجت قبلاً، الثورة الطلابية مثلاً 1968 ضد الحرب على فيتنام، والتي كانت جامعة كولومبيا السبّاقة لها قبل أن تنتشر في بلدان أوروبية وغير أوروبية وتستمر لسنوات. شعاراتها ما زالت حاضرة في الذاكرةِ الجمعية: "لا تعطني حريتي، سأتولى الأمر بنفسي"، تماماً كما هي صرخة اليوم من جامعة براون: "اسمع، اسمع.. استيقظ، استيقظ".

"نحن" الهوامش الملونة غرباء تلاحقنا الأسئلة الغريبة الجاهلة، كلنا شخص واحد، كلنا موضوعون في سلة واحدة

لن تتخيّلي كم يعطيني ما يحدثُ دفعةً من القوّة والأمل، خصوصاً وأنا أرى تلك الاحتجاجات تنتقل من بلدٍ إلى آخر، مقتحمةً أوروبا، مؤذنةً بثورةٍ عالميةٍ جديدة، ثورة تقول لا للظلم والقهر والموت والعنصرية والخوف، والأهم لا لتجزئة النضال الإنساني للوصول إلى العدالة والحرية. ثورة ثقافية شاملة. أعرف أنّك انتظرت منّي أن أتحدّث عن كتابتي وعن التبدّلات العميقة التي طرأت عليها "هنا"، لكن في المنفى يا عزيزتي تتحوّلين قطعة من puzzle زماني- مكاني، puzzle  ينتمي إليه المنفيون/ات واللاجئون/ات والمُضطَهدون/ات والملونون/ات، وباقي المهمّشين/ات بسبب عرقٍ أو جنسٍ أو دين أو طبقة. هذا لا يعني أنّك لم تكوني قبلاً جزءاً منهم، أو لم تكن قضاياهم من أولوياتك، لكن محاولات التهميش الثقافي التي تصطدمين بها دوماً "هنا"، ليس بالتجلّي المباشر الواضح فحسب، بل بالمعنى الرمزي كذلك، تجعلك أكثر قدرة على التضامن مع غيرك من الملوّنات والملوّنين، وأكثر رغبةً بالخروج، ولو قليلاً، من "نصّك" إلى "الشارع"، وأن تتركي "الشارع" يدخل إلى "نصك"، كأن تدعمي حركة (حياة السود مهمة/ Black Lives Matter) مثلاً، تلك التي نشأتْ في المجتمع الأميركي الأفريقي 2013 ضدَّ العنف الواقع على السود، أو تجاهدي للدفاع عن امرأةٍ محجّبة تعرّضت للتمييز لمجرّد أنّها محجّبة، على الرغم من أنّني كنت، وما زلتُ، أرفضُ سيطرةَ السلطات الدينية على الحريّات الشخصية والمجتمعية، أو أن تخرجي في مظاهرات تجوبُ الشوارع حاملةً لافتة ما. هذا التضامن الثقافي، وإلى حدٍّ بعيد الإنساني، تكتشفينه داخلك من خلال شعور عميق بتوحّد مع الهوامش الأخرى، كما قلت لك إنّه puzzle سيكون ناقصاً بدونك. النضال واحد بشكل ما من الأشكال، نضال ضدّ مركزٍ أبيض رأسمالي، عنيف برمزيّته، يرى نفسه (أفضل) و(أكثر حضارة) و(أكثر ثقافة) و(فهماً) لكلًّ شيء حتى لثقافتك وتاريخك، يعمل، بشكلٍ ممنهج وبشتى السبل، لفرضِ قناعاته وفهمه ووجهات نظره وكذلك مواقفه، الأمر الذي يتبدّى جلياً للغايةِ في الآونةِ الأخيرة. لم أشعر بأنّي أبتعد عن كتابتي بسبب ذلك، على العكس كنت أكتب نصّي "الآخر" عبر هذا التضامن، كلاهما يكمّلان بعضهما، وكلاهما يُغنِيان بعضهما، وجهان لورقة واحدة.

اصطدمتُ بذاك التهميش الثقافي وجهاً لوجه حين بدأتُ أدرّس الرواية العربية المعاصرة كأستاذة مساعدة في معهد الاستشراق في مدينتي هامبورغ. فعلى الرغم من أنّني ابنة الثقافة العربية إلا أنّني كنت هناك مهمّشة في ثقافتي أكثر من أيّ وقت مضى، تمّ التعامل معي كشخص أقلّ معرفة وتمكّناً من المستشرقين الألمان. يستميتون ليقنعوك بأنّك على خطأ، متحيّزة، غير موضوعية، وقاصرة عن فهمِ ثقافتك. ثمّة رسالة مختصرة يُوحى لك بها يومياً: نحن نعرف عنك أكثر منك، نفهم ثقافتك أكثر منك، ونعلّمك عن مجتمعك وتاريخك إن أردت! 

التهميش الثقافي في المنافي ليس موضوعاً جديداً بالتأكيد، تحدّث عنه الكثيرون أمثال إدوارد سعيد وهومي بابا وغاياتري سبيفاك وتوني موريسون وغيرهم، لكن عيش التجربة يجعلك، ربّما، تتأكدين كم أنت "خطيرة" كامرأة كاتبة لاجئة ملوّنة في المنفى، دون أن يكون لديك قبلاً أدنى فكرة عن خطورتك. سمّاها تيار ما بعد الكولونيالية عموماً: النقطة الملونة في المخيال الأبيض، نقطة تُشكّك في إجاباتِ المستشرقين الجاهزة وتهزّ قناعاتهم، متعدّدة، حاملة للتجربة التاريخية التي عاشها الملونون والملونات في بلدانهم، ومقتحمة في الوقت ذاته المركز الأبيض الراسخ. أنت تلك النقطة باختصار!

أحكام القيمة المسبقة هي أكثر ما تصطدمين به "هنا" أينما ذهبت

أنت يا عزيزتي، كامرأة كاتبة لاجئة وملوّنة في المنفى، ذلك الآخر "المجهول"، الآتي من مكانٍ لا معالم واضحة له، وإن حُدّدت ملامحه فهي باختصار لا تُناسب عيش الأوروبيين! أنت ذلك "الغريب" المليء بالتناقضات. حسناً، أحكام القيمة المسبقة هي أكثر ما تصطدمين به "هنا" أينما ذهبت. الأمر الذي يجعل قناعتك تزدادُ بأنّ عليك وظيفة أخرى إضافية، لا تتعلّق فقط بكتابتك/ نصّك أو إنتاجك الإبداعي أو إيصال صوتٍ مغاير، بل تتعلّق كذلك برغبتك في تكسيرِ تلك المعتقدات والأفكار المنجزة والمؤطرة التي يُسجن فيها كلّ من لا ينتمي لذلك المركز الأبيض. تستيقظين ذات يوم صباحاً لتجدي نفسك، فجأة، واحدة من جماعةٍ كبيرة مصمتة كصخرة، اسمها: "نساء العالم الثالث". مثال "جذّاب" عن الضحية، سواء أكانت ضحية لأنظمةٍ سياسيةٍ اقتصادية اجتماعية أو ضحية لعنفٍ ذكوري، ضحية لسيطرة كولونيالية أو لنظامٍ عائلي عربي، أو ببساطة ضحية للدين. كلّ التمايزات الشخصية تضمحل هنا. كنت أصطدم دوماً بأسئلة غريبة: هل للنساء أن تتعلّم (عندكم)؟ هل تستخدمون السيارات أو الطيارات؟ وغيرها من أسئلةٍ أبسط ما يُقال عنها إنّها ساذجة، جاهلة بالآخر، ولا تخلو من شعور بالفوقية لدى السائل. هنا ستقعين في اختيار صعب، أو على الأقل هذا ما وقعت أنا فيه، هل تجيبين عن هذه الأسئلة المستفزّة، أو تلوذين بالصمت كموقف احتجاج؟! التمييزات التقاطعية، التي تحدّثت عنها "كيمبريلي وليامز كرينشو"  العام 1989 عبر مصطلح النسوية التقاطعية: intersectional feminism، لن تشعري بكنهها العميق الذي يحزّ في الروح ما لم تعيشي تشابك وتقاطع تمظهرات التمييز، وفي جميع أشكال الهُويّات السياسية والاجتماعية والثقافية، كما تعيشه امرأة كاتبة لاجئة ملونة ونسوية في قلب المركز الأبيض، صدقيني.

بالنسبة لي ولك، ولكثير من النساء العربيّات مثلنا على ما أعتقد، لا يعدّ التهميش تجربة جديدة. لقد عشنا الديكتاتورية والبطريركية الاجتماعية والسلطات الدينية، المتماهية مع السلطات السياسية والاجتماعية، في بلادنا، لكن التهميش هنا مختلف. فإذا قلنا إنّ الواحدة منّا لا تبدأ بسردِ نفسها، أو تجد أنّ عليها أن تتحوّل كائناً يسردُ ذاته، إلا في مواجهةِ سؤال أو اتهام آتٍ من شخص آخر، أو ثقافة أخرى: من أنتِ؟! ففي المنفى تتعرّضين بشكلٍ شبه يومي لهذا السؤال: من أنتِ؟! صيغة أخرى أكثر لطفاً لصفةٍ تلتصقُ بك كغريبة: نكرة! كثير من البديهيات التي كانت بالنسبة لك بديهيات لا تعود كذلك! تتغيّر الوجهة التي تنظرين منها إلى كلِّ شيء تقريباً. في كلِّ مرّة تشرحين نفسك فيها للـ "الأغراب"، كما تشرحين مجتمعك وثقافتك ومعتقداتك وأتفه التفاصيل التي لا يعلمون عنها أيّ شيء، تشعرين بأنّك تشرحين نفسك لنفسك، وتعيدين تعريف كلّ شيء لنفسك أولاً، قبل أن تعرّفيه للآخر. الأهم أنك في كلّ مرّة تشرحين فيها لـ "هم" أنّ لك حقوقاً ورأياً وقضيّة، تشعرين بأنّك تؤكدين لنفسك أنّه من حقك أن يكون لك حقوق ورأي وقضية، ومن حقك أن تستمري في النضال من أجلها. "نحن" الهوامش الملونة غرباء تلاحقنا الأسئلة الغريبة الجاهلة، كلّنا شخص واحد، كلّنا موضوعون في سلةٍ واحدة: قادمون من مكانٍ مجهول، متخلّف، حيث النساء عاطلات جاهلات والرجال مسيطرون! أهلاً بك في "ستريوتايب" المنافي.

عشنا الديكتاتورية والبطريركية الاجتماعية والسلطات الدينية، المتماهية مع السلطات السياسية والاجتماعية، في بلادنا، لكن التهميش هنا، في المنفى، مختلف

لكن في خضمّ هذا المركز الأبيض ذاته هناك الكثير ممّن يشاطرونكِ قناعاتك، على الرغم من انتمائهم "البيولوجي" له. ستلاحظين أنّه كلّما ازدادَ الرأسمال توحشاً ازدادَ النضال ضدّه من رحمه، وكلّما ازدادتْ العنصرية وضوحاً ازدادتْ ردود الأفعال ضدّها، وكلّما تصاعدتْ أصوات الكره والرفض ازدادَ العمل الجماعي لإعلاءِ صوت العدل والتضامن والحب. هؤلاء وغيرهم سيقنعونك بأنّ الهجنة الثقافية، تلك الخلطة من الثقافات والآراء والأفكار المختلفة والمتناقضة أحياناً، الأيديولوجيات والقناعات والمشارب والأديان، هذه الهجنة الجميلة هي وجه المستقبل إن أراد أن يكون جميلاً، وهذا ما نراه اليوم في الثورة الطلابية الجديدة. ستجدين كلّ الألوان والخلفيات والمشارب واللغات، يجمعهم شيء واحد فحسب، هو باختصار رغبة عميقة بأن تكون الأرض مكاناً أفضل لساكنيها. محاولة لرفع الوعي على هذه الأرض.  

"اسمع، اسمع.. استيقظ، استيقظ"

لديّ قناعة بأنّ الأقنعة كلّها تتساقط يوماً بعد يوم، وهي صيغة أكثر تهذيباً من قولي السابق لك: لقد سقطت أوراق التوت. ذلك أنّ مفهوم الحريّة ملتبس للغاية في المنفى، كما هو مفهوم الديمقراطية، لا يمكنني أن أصفهما بصفات أخرى! وكلّ ما سبق وسمعنا عنه، وحاول المركز الأبيض طويلاً إقناعنا به، بأنّه حامل للواءِ الحريّة والديمقراطية وحقوق الإنسان، أضحى ببساطة أمراً مكشوفاً ومشكوكاً فيه. هنا سيكون الاكتشاف الأكثر إيلاماً: لا يوجد يوتوبيا للحريّة والديمقراطية، إنّها أفكار توجد في عقولنا فحسب، والـ "هم" والـ "نحن" مفهومان أقل ما يقال عنهما اليوم إنّهما شديدا اللّبس والضبابية.

حسناً يا عزيزتي، هذا يُسْرٌ قليل من تجربتي في المنفى، على الرغم من أنّ السنوات العشر التي انقضت عليّ "هنا" كانت مليئة متخمة، ويمكنني أن أحكي لك عنها الكثير، وربما استطعت أن أحدّثك في رسالة أخرى كم ساعدتني الكتابة في حياتي الجديدة، وكم تغيّر نصّي كما تغيّرت أنا، لكني أرغب في سماعك الآن...

كل محبتي وصداقتي.

روزا.  

منصورة عز الدين
منصورة عز الدين

منصورة عز الدين

روائية وكاتبة مصرية من أعمالها "بساتين البصرة"، "وراء الفردوس" وجبل الزمرد". تُرجِمَت قصصها ورواياتها إلى لغات مختلفة ونالت جوائز عديدة.
تستضيف مدونة "محاورة" في كلّ شهر كاتبين أو كاتبتين يتحاوران/تتحاوران حول مسألة تهمهما، وذلك في محاولة للاحتفاء بالحوار والاختلاف والرأي الآخر.
روزا ياسين حسن
روزا ياسين حسن
روزا ياسين حسن
روائية وكاتبة سورية، درست الهندسة المعمارية ومن ثم تفرّغت للكتابة. صدر لها عدد من الأعمال الروائية منها: "أبنوس" (2004)، و"حرّاس الهواء" (2009) و"الذين مسّهم سحر" (2016) و"بحثا عن كرة الصوف/ ثلاثة أيام من متاهة المنفى" (2022) وترجمت عدد من رواياتها إلى الألمانية، الفرنسية والإيطالية، وهي عضو في نادي القلم الدولي وتقيم حاليا في ألمانيا/ هامبورغ.
روزا ياسين حسن