ما معنى أن أفكر بنفسي؟
يولد المرء، فيُلقّن الحياة كما علّبها له المجتمع، دينه... ليُقال له ما يجب أن يكون ويحب؛ ليتبع منظومة أَعدّت له حياة يُفترض أنها تخصّه، وإن لم تلائم شخصه. وهذا مبرّر إلى حدّ عمرٍ ما، ولكن حين ينضج سيجد المعرفة متاحة، والعلاج النفسي متاحاً، والتحرّر من قيود أُجبِر عليها، ما يعني أنّ الأمر قرار.
تُعَدّ الأسرة أول مؤثر خارجي، حيث تساهم بدورها في صقل شخصية الطفل وتحدّد منظوره للحياة، ثم يأتي دور المدرسة في تلقين الدارس مجموعة من المعارف والعلوم، إضافة إلى المجتمع وما يمليه على المرء من أفكار ينبغي أن يؤمن ويسلّم بها دون تشكيك أو مخالفة للآراء السائدة، وما يتبعه من منظومة تشمل عدداً من القوانين الرسمية.
لكن ما معنى أن أفكر بنفسي؟
التفكير بالنفس يعني أن أعيد النظر في كلّ ما تلقنته من مسلّمات، والشك فيها وتحليلها من جديد والتمييز بين الغث والسمين، والحق والباطل... وهذا لن يتم إلا بتحقيق الإيمان بالذات أولاً، والتجرّد من كلّ سلطة خارجية كالمجتمع والعادات والتقاليد والعقائد المتوارثة، وأن أنسى عواطفي وكلّ مشخصاتها، وأنّ لا سلطة تعلو فوق صوت العقل، وأن أعود إلى فطرتي الأولى، وكأنني أولد من جديد كطفلٍ يستقبل الدنيا، ويحاول أن يتهجّى كلّ شيء بمشاعر الدهشة والتساؤل، وأن أسير الطريق متعطشة إلى إدراك الحقيقة وترويض النفس الحائرة كما عزم أبو حامد الغزالي، حيث يقول في "المنقذ من الضلال": "وقد كان التعطش إلى درك حقائق الأمور دأبي وديدني، من أول أمري وريعان عمري، غريزة وفطرة من الله وضعتا في جبلتي، لا باختياري وحيلتي، حتى انحلت عني رابطة التقليد وانكسرت عليّ العقائد الموروثة، إذ رأيت صبيان النصارى لا يكون لهم نشوء إلا على التنصر، وصبيان اليهود لا نشوء لهم إلا على التهوّد، وصبيان المسلمين لا نشوء لهم إلا على الإسلام، فتحرّك باطني إلى طلب حقيقة الفطرة الأصلية، فقلت في نفسي إنما مطلوبي العلم بحقائق الأمور، فلا بدّ من طلب حقيقة العلم ما هي، فظهر لي أنّ العلم اليقيني هو الذي ينكشف فيه المعلوم انكشافاً لا يبقى معه ريب، ولا يقارنه إمكان الغلط والوهم". ما يعني أن أتساءل حول كلّ الأشياء وأبحث عن الإجابات وفق المنهج العلمي الصحيح، وأن أتحرّى الحقيقة بالتدبر والتأمل والبحث والتفكير والروية، وأن أُبرئ نفسي من كلّ قيد منذ ولدت به، وتكسير أصنام الفكر والأغلال الكثيرة التي تحول بيننا وبين الحركة العقلية الحرة.
ما يميّز الفلسفة عن سواها أنها لا تدعو إلى الانصهار تمامًا بأفكار فيلسوف معين أو زمان بعينه؛ بل أن أفكر في كلّ مرّة بكلّ ما أقرأ، فأعيد بلورة أفكاري وولادة ذاتي وخلق رأيي الحر
كما ويقرّ صاحب العقل التنويري، أبو العلاء المعري، ويؤكد على أحقيّة العقل في الشك والرفض والتيّقن والبرهان، فيقول: "أما اليقين فلا يقين وإنما... أقصى اجتهادي أن أظن وأحدسا" (نقلاً عن "مستويات البناء الفني في شعر أبي علاء المعري" لأسامة محمد القطاوي).
واليقين بمعناه الاصطلاحي هو العلم الحاصل بعد الشك، مما يعني أنّ أقصى اجتهاد المرء أن يحدس ويظن ويسأل ويبحث في تفسير الأشياء ومدلولاتها.
والذي يميّز الفلسفة عن سواها أنها لا تدعو إلى الانصهار تماماً بأفكار فيلسوف معين أو زمان بعينه؛ بل أن أفكر في كلّ مرّة بكلّ ما أقرأ، فأعيد بلورة أفكاري وولادة ذاتي وخلق رأيي الحر، وأن أقف طويلاً فأمعن نظري وأتساءل حيال كلّ فكرة قبل أن تنبت وبعد، وأن أنتبه لتطوّر الأفكار وتقدّم العلوم ومواكبة كلّ ما يجد في حقل العلم والفلسفة على حد سواء، ولا ننسى دعوة "شيخ الفلاسفة المحدثين" في القرن الثامن عشر كله، أي الفيلسوف الألماني إيمانويل كانط، لاستخدام العقل: "أنا أفكر إذن فأنا موجود وتكون هذه النتيجة على رأس اليقينات جميعاً" (نقلاً عن كتاب "رواد الفلسفة الحديثة لريتشارد شاخت). إذن، أنا أفكر يعني أن أخرج من حالة القصور والنقص والعجز، وألا يكون لي مرشد وهادٍ غير عقلي، فلا إمام سوى العقل؛ وبهذا أحقّق دعوة كانط إلى بلوغ أنوار المعرفة أو الحقيقة.
ولقد كانت دعوة رينيه ديكارت في أوّل هذا العصر الحديث إلى التَسلّح بالمنهج الفلسفي، ويفسّر ويفصل الأديب الراحل، طه حسين، باتباعه المنهج ذاته الذي استحدثه ديكارت للبحث عن حقائق الأشياء ودقائقها وتطبيق القاعدة الأساسية لهذا المنهج، حيث يتجرّد الباحث من كلّ شيء كان يفعله من قبل، ويستقبل موضوع بحثه خالي الذهن تمامًا من كلّ شيء سبقه، ويعتبر هذا المنهج من أخصب المناهج وأقواها وأفضلها أثرًا؛ وكيف لا يكون وقد جدّد العلم والفلسفة تجديدًا على حدٍ سواء، وقد غيّر مذاهب الأدباء في أدبهم والفنانين في فنونهم (في الأدب الجاهلي/ طه حسين).
أنا أفكر يعني أن أخرج من حالة القصور والنقص والعجز، وألا يكون لي مرشد وهادٍ غير عقلي فلا إمام سوى العقل
ولتخليص النفس من طائفة الآراء الباطلة التي تلقتها على أنها صحيحة؛ لا بد من استقصاء البحث بالعودة إلى الأصول والاجتهاد في معرفة دقائقها، بيد أنّ هذا الأمر لا يقتصر فقط على أفكار محدّدة؛ بل جميع الأفكار والمسلّمات التي تلقنتها كماً وكيفاً، وأنّ الفكرة كلّ الفكرة في بحثنا المتواصل عن أسباب وجودنا، أنها جزء لا يتجزأ ولا ينفصل عن رحلة نضجنا، وارتفاع سقف توقعاتنا تجاه الأشياء، ثمّ إنّ هناك سبباً آخر مهماً يدفعنا للبحث أكثر عن ماهية وجودنا كما كانت أجيال سابقة تصارع للبحث عن هويتها ومادتها، هو السعي الدؤوب حيال فكرة وجود هدف يوقظ عزيمتنا للمواصلة في معترك الحياة، الشأن الذي يحثّنا دوماً على القراءة والبحث في كلّ سُبل الحياة، وأن نختار ما نريد أن نكون، لا كما تختار القبيلة والعادات والطبقات الاجتماعية والقوالب الجاهزة.
ويساعدنا كثيراً أن نفهم الفلسفة النقدية عند كانط، والتي تنصرف إلى ثلاثة أسئلة: ما الذي يمكن أن أعرفه؟ وما الذي ينبغي لي أن أفعله؟ وما الذي أستطيع أن آمله؟
فالأصل في فلسفة كانط النقدية التساؤل عن طبيعة المعرفة البشرية وقيمتها وحدودها وعلاقتها بالوجود، وإن الفلسفة النقدية تريد أن تستوعب شتى مجالات المعرفة الإنسانية (كانط والفلسفة النقدية/ إبراهيم زكريا).
خير ما يفعل المرء ليصل للحقيقة ويدرك مكنونات الأشياء أن يُعمل حواسه في التفكير والبحث، والتأمل بكلّ ما يعنيه هذا الفعل مع معنى
وبعد هذا، فلا بد أن أتساءل، ولو قليلاً، في ما أعتبره حقائق نهائية، فمساءلة الأشياء هي أساس تكويننا وغايتنا لنكون أو لا نكون، ولا سيما تحقيق الدعوة الحق لقيام الحضارة التي لا تقوم إلا على أساس من العلم والمعرفة والنظر في طبيعة الأشياء، ولقد أوحى الله إلى الإنسان بغريزة التجمع والمشاركة والاستفادة من كلّ القوى التي تحيط به ليطوّر نفسه، والسير بها نحو التقدم والرقي، وفي هذا يقول ابن خلدون في مقدمته: "إن الاجتماع الإنساني ضروريٌّ ويعبر الحكماء عن هذا بقولهم الإنسان مدنيٌ بالطبع، أي لا بد له من الاجتماع الذي هو المدينة في اصطلاحهم، وهو معنى العمران، وبيانه أن الله سبحانه خلق الإنسان وركّبه على صورةٍ لا يصح حياتها وبقاؤها إلا بالغذاء وهداه إلى التماسه بفطرته وبما رُكب فيه من القدرة على تحصيله، إلا أن قدرة الواحد من البشر قاصرةٌ عن تحصيل حاجته من ذلك الغداء ...." (مقدمة ابن خلدون).
إذن، فلقد ميّز الخالق الإنسان بالعقل والتفكير، وبفضل هذه الميزة التي انفرد بها الإنسان استحق أن يكون خليفة الله في الأرض.
وليحيا العقل ينبغي أن يحيا السؤال فينا على الدوام، فالفلسفة توقظ الفطرة، وتحيي الأفكار قبل أن تموت، كما وتساعدنا في صقل وبلورة ملكة التفكير (ملكة الذات الحقيقية) وإعادة تنظيم حيواتنا، وألا نقف في عجز أمام مواجهة طوفان الأفكار الاجتماعية المغلوطة، وأنّ خير ما يفعل المرء ليصل إلى الحقيقة ويدرك مكنونات الأشياء؛ أن يُعمل حواسه في التفكير والبحث، والتأمل بكلّ ما يعنيه هذا الفعل مع معنى، لهذا الأمر سعيت إلى دراسة الفلسفة لأنها دعوة لاستخدام العقل والتفكير.