ما قالته اللفافة!

22 اغسطس 2021
+ الخط -

أنا اللفافة، إذا كنت لا تعرفني فأنت لم تلبسني بعد.

إذا كنت غنياً أو مسنوداً فأنت لن تلبسني إطلاقاً، ربما تصافحني كفك بعد أن أنتقل إليها من كف "ديلر" يبيعك ما أحمله بداخلي من مخدرات، وعندها سأنتقل من كفك إلى جيبك أو إلى صندوق سيارتك أو إلى جيب حقيبتك. من ملامح وجهك وماركة سيارتك سأعرف من أول نظرة أنني لن أندس في فمك أو مؤخرتك سواءً كان ذلك طواعية أو عنوة، التجارب الطويلة علمتني أن الفقراء وغير المسنودين والغرقى في بحر الحياة هم وحدهم الذين يضعونني في أفواههم ومؤاخراتهم طواعية لكي يعبروا بي وبما أحمله من مخدرات من مطارات العالم المتقدم، أو يضعني الضباط والمخبرون والجلادون في أفواههم ومؤخراتهم عنوة في أقسام وسجون وشوارع العالم المتردي.

أنا اللفافة، تحدث الكثيرون وظللت صامتة، ليس لأنني جماد أخرس لا يتحدث، بل لأنني لو نطقت لما صدق الناس حرفاً مما أعرفه عن دناءتهم ووضاعتهم وتحجرهم، مغلوبة أنا على أمري، أُستدعى وقت الطلب لأحمل أوزار الناس، ولأصير لعبة يتقاذفها بإتقان ضباط شرطة وخبراء طب شرعي ووكلاء نيابة وصحفيون وساسة ومتفرجون ماتت ضمائرهم، إذا أدى كل واحد من هؤلاء الدور المرسوم له، عندها فقط أنجح في إحراز الهدف، أما إذا تمرد أحدهم على دوره المرسوم أظل لعبة حائرة لا تستقر على مرمى، بل أحيانا تنكشف اللعبة لأجد نفسي عرضة لأضواء البحث وأصابع الإتهام ونظرات الشك.

عندها سيتحدث الجميع وسأظل صامتة، محتفظة بسري أنوء بحمله، مستقرة داخل كيس بلاستيكي قميء في دولاب أحراز عتيق متمرس في معاشرة الزور، كلما تم إغلاقه أخذت الأحراز تُحَدِّث أخبارها، فيحكي الحرز الصادق عما رآه من بشاعة، ويلعن الحرز المدسوس من دسه بمهارة، ويعترف الحرز المتلاعب به بإسم الأيدي التي امتدت عابثة إليه: هذه رصاصة خارجة من جسد شهيد تسأل نفسها متى يستبدلونها برصاصة أخرى، وتلك شظية تعلم أنها لن تكون كافية لإنصاف جريح أخرجوها من جسده، وتلك ورقة مزورة تعرف أنهم لن يمسكوا أبداً باليد التي زورتها، وذلك قرص مُدمج يعلم أنه سينقرض قبل أن يصلوا إلى حقيقة مايحمله، وهناك في أرجاء متناثرة من الدولاب تستقر لفافات مليئة بالمخدرات كلهن أرقى مني وأكبر حجما وأشد امتلاءً وأثقل وزنا، وكلهن يأنفن مني لأنني إما قادمة من فم حُشِرت به أو مؤخرة دُسِست فيها، لكننا جميعاً نعلم أننا مجبرون على أن نظل إلى النهاية صامتين لا نستطيع أن نكشف الحقيقة التي ننوء بحملها، علينا فقط أن نتفرج على من سينال جزاء حمله لنا حقاً وعدلاً، ومن سيحمل أوزارنا ظلماً وعدواناً.

استقررت في جيب أحدهما، وعندما خرجت من ذلك الجيب العفن وجدت أمامي وجها جميلا لشاب بهي الطلعة يمسك المخبران بفمه ويفتحانه عنوة ويقومان بحشري داخله عنوة

أنا اللفافة، أحمد الله وأبتهل إليه لأنه لم يخلقني إنساناً وأنعم عليّ فجعلني جماداً لا يحس ولا يشعر، كلما شاهدت ظلم البشر لبعضهم البعض أسخر من نفسي لأنني ظننت أن حياة البشر يمكن أن تكون أكثر إمتاعاً ودفئاً، خدعني ما أراه من ملامح النشوة التي تبدو على وجوههم عندما يفضّونني ويتناولون ما أحمله شماً أو حرقاً أو حقناً، خدعتني ضحكاتهم المجلجلة أحياناً، ومشاعر الرضا التي تنتابهم عقب وليمة طعام ساخنة أو لحظات جنس حميمة أو ساعات دفء عائلي أو مشاعر ندم يجهشون بعدها ببكاء مهيب، كان ذلك قبل أن أكتشف أن كل تلك المشاعر لا قيمة لها إلى جوار لحظة ظلم واحدة أراها تحل بإنسان يهوي تحت أحذية ضاربيه على الأسفلت، أو تتمزق أربطته في غرفة التعذيب، أو ينتفض جسده بفعل كهرباء تصعقه، أو يرتفع رأسه هارباً من مياه كادت تغرقه ليبحث عن نفس يحيي موات رئتيه، أو يرى من يحب أمامه عارياً أو مُهاناً أو خائفاً.

لا، لا أريد أن أكون بشراً، أريد أن أكون كما أنا، خامدة جامدة لا تمتلك إرادة ولا روحاً ولا قراراً، فذلك أكرم بكثير من أن تكون لي إرادة ويسلبونها مني، وأن يكون لي روح ينتهكها كل من هو أقوى مني، وأن يكون القرار الوحيد الذي أقدر على اتخاذه هو قرار التخلص من الحياة التي منحها لي الله.

أنا اللفافة، لا زلت أذكر اللحظة الأولى التي دخلت فيها إلى داخل جسد إنسان عنوة بعد أشهر من التنقل بين المطارات والموانئ والتقلب بين أيدي المهربين وضباط البوليس والتجار والموزعين، قبلها كنت أجلس في دولاب داخل قسم شرطة لأشهر دون أن أفعل شيئاً مفيداً، أتفرج على الداخلين إليه والخارجين منه وأستمع إلى حكايات تغري بمخاصمة الجمود وتحرض على الصراخ في وجوه البشر قرفاً وحنقاً، أخرجني الضابط الذي كنت من نصيبه من الدولاب وأعطاني لمخبرين كان يتبادل معهما نكاتاً بذيئة لم أسمع مثيلاً لسفالتها منذ أن لُفِفت وأصبحت لافة ودايرة.

استقررت في جيب أحدهما، وعندما خرجت من ذلك الجيب العفن وجدت أمامي وجها جميلا لشاب بهي الطلعة يمسك المخبران بفمه ويفتحانه عنوة ويقومان بحشري داخله عنوة، سيطاردني وجه ذلك الشاب إلى أن أفنى تماماً وأترك هذه الدنيا البائسة، كان وجهه الصبوح مليئاً بأمارات التحدي والشجاعة، لكنني رأيت الخوف يسكن في عينيه، وإلى جوار الخوف رأيت في عينيه صوراً مدهشة تتسابق على المثول في ذاكرته، رأيته يقبل رأس سيدة محجبة جميلة، رأيته يحتضن جيتاراً ويغني، رأيته يتغزل في فتاة فاتنة، رأيته يمسك مصحفاً ويقرأ بصوت جميل، رأيته على مائدة العشاء مع فتاة تشبهه وأسرة تحبه، رأيت وجوه قاتليه تطرد كل هذه الصور من حدقتي عينيه وتكسوهما بسواد يزداد حلكة كلما أجبروني على أن أدخل أكثر إلى أعماق فمه الذي ضاق بي وحاول مرارا لفظي خارجه قبل أن يتوقف عن المحاولة فأدرك ما تسببت فيه، واستقر داخل فمه صامتة حزينة، أتنقل من يد إلى يد وأخرج من دولاب إلى آخر، وأسمع كذباً كثيراً يقسم قائلوه عليه بالمصحف الشريف، قبل أن أرى صورة الشاب الذي وضعوني في فمه وهي تكسو جدران الشوارع التي أعبر بها من مبنى إلى مبنى بين حين وآخر، وعندما استبشرت خيرا لأنهم أخرجوني أخيراً من الدولاب لكي يعرفوا الحقيقة، حاولت أن أساعدهم وأصرخ بها لكنني فشلت، وكانت هذه المرة الأولى التي أندم لأنني خلقت جمادا، قبل أن تمر أشهر لأعرف الحكم الذي صدر بحق من وضعوني في فم الشاب، فأرضى بصمت أبدي يليق بكل ما عايشته من قبح.

اليوم وأنا مستقرة في هذا الدولاب الكئيب، أنتظر مصيري النهائي، وجدت لفافة أخرى صغيرة الحجم تدخل إلى الدولاب صامتة حزينة، يقولون هنا أنها جاءت من داخل جسد شاب فقير قتلوه بأحد السجون، كلما سألها أحد من أين أتت تجهش بالبكاء وترتجف ربما من هول ما رأته، أنظر إليها حزينة لأنها ستخوض نفس الرحلة التي خضتها، قبل أن تستقر في نهاية المطاف مثلي محبطة عاجزة خامدة، تقول لنفسها هذه العبارات الساخرة المريرة التي أقولها لنفسي منذ أن صدر الحكم الأخير: " أنا اللفافة، أنا الحل السحري، أنا المبرر، أنا العذر، أنا الحجة، أنا الخلاص، أنا المهرب، أنا المخرج، أنا سبيل الظالمين إلى النجاة، متى ستلبسني؟".

...

هذه السطور مهداة إلى روح خالد سعيد وهي فصل من كتابي "ست الحاجة مصر" الذي تصدر طبعة جديدة له قريباً عن "دار المشرق".

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.