ماذا لو كَتَبَتْ شهرزاد؟
في كتابها "نساءٌ على أجنحة الحلم"، تُورد الكاتبة، فاطمة المرنيسي، قصة تأتي على لسان إحدى الفتيات بعنوان: "شهرزاد الخليفة والكلمات"، تحكي الفتاة في هذه القصة أنّها سألت أمها في يوم من الأيام أن تشرح لها سبب تسمية حكايات كتاب "ألف ليلة وليلة" بهذا الاسم، وأنّ أمها وضحت لها أنّ سبب التسمية، هو أنّ ملكاً يُدعى شهريار قرّر أن ينتقم من الخيانة التي تعرّض لها من قِبل زوجته، حيثُ إنّه قرّر أنّه سيجلب عنده في كلّ ليلة عذراء ويتزوجها ثمّ يقتلها عندما يحلّ الصباح، وأنّه لما حان دور شهرزاد لتتزوج الملك (وكانت ابنة وزيره وآخر فتاة عذراء في المدينة)، فقد تمكّنت من ابتداع طريقة لإنقاذ نفسها من سيف شهريار، حيثُ إنّها استغلّت براعتها في فنّ الحكي والسرد القصصي.
ففي الليلة الأولى التي دخلت فيها على شهريار قامت بقصّ حكاية عجيبة له قطعتها في لحظتها الأشدّ تشويقاً عند ولوج الصباح، وجعلته في حالة ترقّب وشوق للاستماع إلى تتمتها، وهو الأمر الذي جعله يؤجل قرار قتلها إلى الليلة الثانية، ثمّ مع الليلة الثانية، وبعد أن أنهت شهرزاد حكايتها الأولى، بدأت بقصّ حكاية جديدة على شهريار قطعتها أيضاً، في لحظتها الأشدّ تشويقاً، لتجعله يؤجّل قرار قتلها ليلة أخرى، وهكذا تستمرّ شهرزاد بقصّ حكاياتها لشهريار، ليلة بعد أخرى، حتى يبلغ عدد تلك الليالي ألف ليلة وليلة.
تستكمل الفتاة قصتها حول حديث أمها، وتُبيّن أنّ أمها لما انتهت من حكاية شهرزاد، دخلت في حالة تمتمة هامسة مع نفسها، وقالت: "ولكن كيف نتعلّم الحكي لننال إعجاب الملك؟".
إنّ حكاية الفتاة السابقة تأتي لتدلّل على أنّ حضور شهرزاد في سلسلة هذه الحكايات كان يقتصر على صفتها كحكاءة ومحدِّثة، فدورها في هذه السلسلة من الحكايات كان مقتصراً على الحكي، وفي كلّ هذه الحكايات حضرت شهرزاد باعتبارها كائناً ليلياً، يحضر في الليل ويغيب مع انبلاج الفجر.
ويُمكن القول إنّ حضور المرأة بصفتها كائناً شفهياً هو حضور استمرّ لقرون طويلة، فهو نمط حضور ارتبط بشكل أو بآخر بفرض نوع من الهيمنة الذكورية عليها عبر حرمانها من الكتابة، ومن سلوك طرقها، وفي السياقات العربية، يُمكن اعتبار كتاب "الإصابة في منع النساء من الكتابة" لخير الدين نعمان بن أبي ثناء المكنّى "نعمان الآلوسي"، من أبرز الكتب التي تضمنت في متونها نصوصاً جاءت بغرض منع النساء وحرمانهنّ من حقهنّ في الكتابة.
في كلّ الحكايات حضرت شهرزاد باعتبارها كائناً ليلياً، يحضر في الليل ويغيب مع انبلاج الفجر
هناك العديد من المقاطع التي وردت في كتاب الألوسي، ويظهر فيها بأنّ أحد أبرز المبرّرات التي استخدمها الرجال لمنع النساء من الكتابة، هو الخوف من أن تقوم المرأة باستخدام الكتابة كوسيلة للغواية والإيقاع بالرجال، وكأنّ النظرة الذكورية إلى المرأة كانت تُجرّد فِعلَ الكتابة عندها من كلّ غاياته (التي تقع في مقدمتها حاجتها للتعبير عن نفسها) وتحطّ من قدره لتجعل منه مجرّد وسيلة لتحقيق غاية كُبرى هي التلاعب بالرجال أو إغوائهم والإيقاع بهم!
إنّ التقييدات الذكورية الكثيرة التي فُرِضَت على تواجد النساء في عالم الكتابة هي تقييدات حبست المرأة لفترات زمنية طويلة خارج اللغة، واللغة المقصود هنا هي اللغة النهارية، أي "لغة الكتابة" البعيدة كلّ البعد عن لغة "الحكي" الليلية، إنّها تلك اللغة التي لا تحتاج فيها المرأة إلى الليل كمساحة تعبّر فيها عن مكنونات ذاتها بطريقة تعبير واحدة ومنقوصة هي "الحكي"، إنّها لغة الوضوح التي لا تحتاج فيها المرأة إلى أن تصمت عندما يطلع عليها النهار، ولا تحتاج فيها إلى استخدام أساليب القطع والوصل لتروي نفسها، إنّها لغة تَسرِد فيها المرأة نفسها وحكايتها الواقعية بعيداً عن كلّ خرافة عجائبية، تَقولها كلّها في استمرارية واثقة من نفسها، وتحت ضوء النهار.
وإنْ كانت لازمة راوي حكايات "ألف ليلة وليلة" في أزمنة الحكي: "وأدرك شهرزاد الصباح، فسكتت عن الكلام المباح". فربّما لو أدرك شهرزاد الصباح في أزمنة الكتابة لحدث تغيّر جوهري في هذه اللازمة يجعلُ من فِعل الكتابة عند شهرزاد فعلاً يتّسم بالاستمرارية والسيرورة؛ ربّما لو أدركها الصباح في أزمنة الكتابة، لكان الراوي قال في اللازمة بملء فيه: وأدركَ شهرزاد الصباح وهي ما زالت تكتب، وتكتب، وتكتب...