يد الكاتب بين الأصالة والتكرار
ناقشتُ أحد الأصدقاء قبل مدّة حول الأسباب التي تدفع به إلى عدم التجرّؤ على سلوك طرق الكتابة، إذ سألته مُستفسرةً عن أسبابه التي تقوده نحو الابتعاد عن الكتابة رغمَ اعتقاده بإجادته لها. قال لي بإنّ اعتقاده بإجادته للكتابة يطغى عليه اعتقاد آخر راسخ لديه، بأنّ كلّ كتابة يأتي بها لن تكون كتابة جديدة، وإنّما ستكون عبارة عن تكرار لكتابةٍ حدثت في وقتٍ آخر وزمنٍ آخر.
جادلتُ صديقي في فكرته تلك حول الكتابة والتكرار، وأخبرته بأنّ حقيقة عدم وجود كتابة عذراء من حيث الأصل بشكلٍ كامل، لا تُنقِص من قدر الكتابة شيئاً، فرغمَ أنّ كلّ كتابة هي بالتأكيد تأتي لتستكملَ كتابة سابقة لها، إلا أنّ ذلك لا يستدعي بالضرورة التشكيك في فعاليّة الكتابة والطعن في جدواها من الأساس.
دفعتني مجادلتي مع ذلك الصديق إلى استذكار بيت شعر أورده عبد السلام بنعبد العالي في كتاب "قراءات من أجل النسيان"، وهو لزهير بن أبي سلمى، ويقول البيت في متنه "ما أرانا نقول إلا رجيعاً ومعاداً من قولنا مكروراً"، وبنعبد العالي أورد البيت في مقدّمة مقالة له في الكتاب بعنوان "في شعرية الاقتباس"، وهي مقالة يسردُ فيها الملامح الشعريّة والجماليّة للعبارات المُقتبسة التي يُوردها كاتب ما في نصّ له، وينسبها بشكلٍ صريح إلى كاتبٍ آخر.
فبحسب بنعبد العالي، فهذه العبارات أو الاقتباسات الصريحة التي يُوردها كاتب ما في نصّه، تُصبح جزءاً لا يتجزّأ من بنيّة النصّ، وتضفي عليه ملامح جمال خاصّ، وتجعل مكتشفها يتعامل معها كأنّها اكتشافه الخاصّ الذي يزعجه أن يراه مزروعاً في نصٍّ آخر.
وبحسبه، فالاقتباسات الصريحة في أيّ نصّ، لا تُعطي الكاتب الحقّ في الادّعاء بأنّ بقية أجزائه هي من خلقه وابتكاره، فيدُّ الكاتب في منطق بنعبد العالي هي دوماً يدٌّ ثانية، ويُورد عن ذلك: "والحال أنّ يد الكاتب هي دوماً، "يدٌ ثانية"، وأنّ الكاتب غالباً ما يقتبس حتى إنّ ظنّ أنّه صاحب الفكرة، وأنّه السبّّاق لها. فتخصيصُ عبارات بعينها على أنّها مأخوذة من الصفحة كذا في المرجع كذا مع إغفال ما تبقى هو نوع من الادّعاء بأنّ هذا كلّه "الماتبقى" من إبداع صاحبه، وأنه اختطّ لأوّل مرّة، وأنّه لم يتقدّم ذكره على الإطلاق".
عدم وجود كتابة عذراء من حيث الأصل بشكل كامل، لا يُنقِص من قدر الكتابة شيئاً
بنعبد العالي يؤكّد في نصّه السابق أنّه لا يوجد كتابة أصيلة بالمطلق، فبرأيه إنّ "الكتابة ليست في النهاية إلا استنساخات تَنسى أنها كذلك"، واعتقاد الكاتب بأصالة كتابته نابع من نسيانه لحقيقة أنّ كلّ كتابة هي استنساخ لما قبلها.
وملاحظة بنعبد العالي حول أصالة الكتابة، ومن أنّها لن تكون أبداً سوى استنساخات، تقود إلى ملاحظة أخرى أوردها المترجم، محمد آيت حنا، في مقدّمة ترجمته لكتاب أغوثا كريستوف "الأميّة"، وأثنى فيها على أسلوب كريستوف في الكتابة، موضحاً أنّ هناك طريقتين في التعامل مع الاقتباس المباشر في الكتابة "إما جعله يطفو على السطح في شكل استشهادات وإحالات، وإما التشبّع به بحيث يغدو هو قوام الكتابة والروح التي تسري فيها دون أن يتم التصريح فيه بشكل مباشر"، فكريستوف بحسب حنا تلجأ في كتابتها إلى الطريقة الثانية، فلا تكثر من استخدام الاستشهادات والاقتباسات المباشرة، لكنّها تجعل بنية نصوصها تتشبّع بروح تلك الاقتباسات والاستشهادات فتظهر جماليتها في قوام نصوصها، حتى وإنْ لم تشر إليها بشكلٍ مباشر.
إنّ حنا يُريد في مديحه لنصوص كريستوف التأكيد على الفكرة التي أوردها بنعبد العالي بخصوص أنّ الكتابة هي في النهاية مجرّد استنساخات وتكرارات يتبع بعضها بعضاً دون أن ينقص ذلك من قيمتها وجماليتها شيئاً، فالتكرار ضروري وملائم لطبيعة الكلام القابل للنفاد "لولا أنّ الكلام يُعاد لنفد"، وكما أوردَ عبد الفتاح كيليطو في كتابه "الأدب والميتافيزيقيا": "لا وجود للكلام إلا في تكراره واجتراره، وكلّما أعدنا الكلام ورددناه نما وازدهر، لكيْ لا يجف النبع ينبغي أن يسيل ويبذر المياه ويُضحي بنفسه ويُستنفد".