ماذا عن ضحايا الصراع في السودان؟

ماذا عن ضحايا الصراع في السودان؟

21 فبراير 2024
+ الخط -

سعدت بزيارة السودان والعمل فيها قبل سنين طويلة، وخبرت كرم السودانيين ولطفهم ودماثة خلقهم، فكل احتكاك لي معهم عكس الخير والطيبة التي جُبِلَ عليها هذا الشعب، تجربة تركت بصمة جميلة لن تمحى في قلبي. ولكن للأسف منذ ما يقرب من عام والسودانيون يخوضون مذبحة تكاد تكون منسية نتيجة لصراع العسكر، وحروب الوكالة على الأرض السودانية. 

حرب وحشية أدت إلى نزوح تسعة ملايين شخص داخل بلادهم وفقًا للمجلس النرويجي للاجئين، حيث تعد هذه المأساة أكبر أزمة نزوح مرتبطة بالحرب في العالم متجاوزةً مأساتي سورية وأكرانيا. وقد أُجبر العديد من السودانيين على الفرار من العنف أكثر من مرة. وعلاوة على ذلك، فرّ ما يقرب من 1.7 مليون شخص آخرين من السودان إلى البلدان المجاورة. ولكن حتى هذه اللحظة لم يتمكن أحد تقريبًا من العثور على الأمان شأنهم في ذلك شأن إخوتهم في غزة.

وفي هذا العالم المضطرب، وصراعاته الوحشية التي تلطخ انتهاكاتها ما تبقى من ضمير الإنسانية، تصبح المدافعة عن المضطهدين والدعوة للعدالة متطلبًا حتميًا منا جميعًا، مما يفاقم من حجم المعضلة التي باتت تثقل كاهل العديد من المدافعين عن حقوق الإنسان، وتزيد من الشعور بالذنب لعدم القدرة على دعم جميع القضايا المحقة بالتساوي.

خلال الشهور الأربعة الأخيرة، انحصر تركيزي على العدوان على غزة، والإبادة الجماعية التي يرتكبها الاحتلال الاسرائيلي المدعوم أميركيًا. فوحشية وهمجية وإرهاب الاحتلال جمد ما تبقى من البشرية مكانها وهي تشهد لأول مرة إبادة جماعية تبث مباشرة وعلى مدار الساعة، وسط تصفيق وترحيب المنظومة الدولية. وغرقت مثل الكثيرين في قضية فلسطين حتى ما عدت أتابع أي شأن لا يتعلق بغزة، ومهما بدا ما نفعله من مدافعة، وكتابة، وتبرع، ومقاطعة وغيرها بسيطًا فهو أقل ما يتطلبه أبسط واجب أخلاقي علينا كبشر. 

ومع ذلك، فإن الواقع القاسي لقدراتنا المحدودة يواجهنا في كثير من الأحيان بالحقيقة المؤلمة المتمثلة في أننا لا نستطيع الدفاع عن كل قضية نبيلة في وقت واحد. ويؤدي هذا الإدراك إلى شعور عميق بالذنب. الشعور بأن إعطاء الأولوية لقضية واحدة يعني أننا نهمل أو نخون بطريقة أو بأخرى آخرين يستحقون دعمنا على قدم المساواة.

وفقًا للأمم المتحدة بعد عشرة أشهر من اندلاع الصراع المسلح قُتل أكثر من 12 ألف امرأة ورجل وطفل في السودان

فوفقًا للأمم المتحدة بعد عشرة أشهر من اندلاع الصراع المسلح قُتل أكثر من 12 ألف امرأة ورجل وطفل في السودان. وبات 14 مليون طفل بحاجة ماسة إلى المساعدات الإنسانية والحماية. وأصبح ملايين السودانيين على بعد خطوة واحدة من المجاعة، وسط إنهيار منظومة الرعاية الصحية، وانهيار نظام التعليم، مع استمرار ورود روايات وشهادات مروعة عن حالات اغتصاب وعنف جنسي واسعة النطاق.

مآساة مكتملة الأركان تدور رحاها بعيدًا عن أعيننا، مآساة مستمرة تكاد تنسى وسط ظلام مآسي هذا العالم القاسي، وكأن شعورنا بالذنب جراء تقصيرنا اتجاه غزة لم يعد كافيًا، فالسودانيون أيضًا يستحقون أن يعمل العالم على وقف معاناتهم وإحقاق العدالة.

كأفراد، نحن ننجذب إلى قضايا معينة بناءً على عدد لا يحصى من العوامل، مثل الروابط الدينية، أو القومية، أو التجارب الشخصية، أو التوجهات السياسية، أو الثقافية، أو القرب الجغرافي، أو ببساطة اتساق صدى محنة معينة مع بوصلتنا الأخلاقية. وبمجرد أن نلزم أنفسنا بقضية ما، سواء كانت الدفاع عن ضحايا الإبادة الجماعية في غزة أو رواندا أو البوسنة، أو أي شكل آخر من أشكال الظلم، فإنها تصبح شغفًا مستهلكًا، يتطلب وقتنا وطاقتنا ومواردنا، وقبل كل ذلك مشاعرنا. وعندما تندلع صراعات أو تطفو قضايا متعددة على السطح في ذات الوقت، يتنافس كل منها على جذب انتباهنا، تطفو معها المفارقة القاسية أن فعل المناصرة أو المدافعة، الناشئ عن التعاطف والتضامن، يمكن أن يصبح مصدرا للشعور بالذنب عندما نواجه القيود المفروضة على قدراتنا على إحداث التغيير، حتى مع قضية واحدة.

إن الشعور بالذنب لعدم القيام بالمزيد ينخر في ضميرنا، ويثير أسئلة تخترق الروح: هل كان بإمكاني أن أفعل المزيد؟ ماذا كان علي أن أفعل لنصرة الجميع؟ هل التزامي تجاه ضحية يشكل خيانة لعدد لا يحصى من الضحايا الآخرين الذين نسيهم الاعلام وباتوا يقبعون في غياهب النسيان، وتتلاشى صرخاتهم من أجل العدالة في الفضاء البارد المظلم دون أن يجيبها أحد؟.

في محاولة التصدي لهذه الأسئلة، من الضروري أن ندرك أنه على الرغم من أن جهودنا الفردية قد تبدو غير ذات أهمية في مواجهة المعاناة الساحقة، إلا أنها مع ذلك ذات معنى وضرورية، ويجب علينا كأفراد وجماعات محاولة إيجاد نوع من التوازن، ومحاولة توزيع الجهود ما أمكن. فالمدافعة والمناصرة ليست لعبة محصلتها صفر، حيث أنه ليس بالضرورة أن يأتي مكسب قضية كغزة مثلًا على حساب خسارة قضية كالسودان. بل يجب أن تكون مساعينا جماعية يغذيها التأثير التراكمي لعدد لا يحصى من الأفراد الذين يرفضون التزام الصمت في مواجهة الظلم في كل القضايا المحقة، والانتصار في قضية ما سيكون محفزا للمدافعة عن قضية أخرى.

محمد صالح
محمد صالح
مستشار وخبير في التنمية الدولية والتطوير المؤسسي، تركز جهوده وخبراته على إصلاح القطاع العام وتنمية المجتمعات المحلية. أدار وعمل في العديد من المشاريع المموّلة من الوكالة الأميركية للتنمية الدولية والاتحاد الأوروبي في مجالات التنمية وسيادة القانون.