مؤانسات رمضانية (4) أبعدنا عن السياسة وخلينا بالانشراح

02 يونيو 2017
+ الخط -


  

(يعود تاريخ هذه الحكايات إلى ما قبل ربع قرن من الزمان)

يكاد "الحاج عمر" أن يكون الشخص الوحيد المستريح اقتصادياً ضمن شلة السمر الرمضاني، لذلك رفض أن نطبق عليه المبدأ الأميركي في دفع تكاليف طعام الإفطار، وقال بحنو ممزوج بالمداعبة: عندي اثنا عشر ولداً، وأنتم ثلاثة عشر، فلأفترض أنني تزوجت باثنتين وخلفتكم أنتم أيضاً، ففي هذه الحالة أكون ملزماً بكم شرعاً وقانوناً.

قال أبو نزار المفلسف ضاحكاً: أنا شخصياً موافق، ومستعد أن أنقل خانتي في سجلات النفوس إلى خانتك، المهم أن تطعمني وتسقيني وتشتري لي علبة تبغ (تتن) وتعطيني خرجية.

قال خالي: لا تعقد الأمور يا أبا نزار، فقصة حياتك عويصة وتوجع الرأس، بينما نحن نسعى في جلساتنا هذه إلى التسلية والضحك والفرفشة، هذا على الرغم من أنكم، كما يقول أشقاؤنا المصريون، (قلبتوها غَمّ) في الجلسات السابقة، وحكيتم في السياسة!

قال أبو النور: يحصل هذا على الرغم منا يا أبا محمد، لذا نرجو المعذرة.

قلت موجها الكلام للحاج عمر: صدقني يا حاج بأن ما سأحكيه لك وللشباب الحاضرين لا يدخل في باب التفاصح أو التعالم أو استعراض العضلات الثقافية، ولكن المثال الذي خطر ببالي الآن يقتضي ذلك.

قال الحاج عمر: إننا مصغون إليك.

قلت: قبل حوالي عشر سنوات، أصدرت وزارة الثقافة في سورية كتاباً مترجماً عن اللغة التركية، لكاتب لم نكن قد سمعنا به من قبل يدعى عزيز نسين، وفيه مختارات من قصصه ترجمها الأستاذ فاضل جتكر. هذا الكتاب أثر في حياتي وتجربتي القصصية كثيراً (وأثر في كتّاب آخرين أيضاً) إلى درجة أنني جلست أتابع ما يترجَم له من أعماله أولاً بأول، وقد حرضت الصديق عبد القادر عبد اللي على ترجمة أعمال أخرى له، ففعل.

قال أبو نزار المفلسف: كل هذا الحكي وتدعي أنك لا تتفاصح علينا؟!

قلت: بالعكس يا أبا نزار، فأنا أقصد من وراء هذه المقدمة أن أصل إلى جواب مقنع للطلب الذي وجهه إلينا الحج عمر بأن نكتفي بالتسلية فلا نعرج على هموم الحياة الصعبة.

قال الحاج: دعك من أبي نزار وأكمل حديثك.

قلت: من قصص عزيز نسين واحدة بعنوان (قصة مكشوفة) تحكي عن صحفي فقير وملتزم بقضايا الناس، يطلب منه رئيس التحرير أن يكتب قصة مكشوفة بمناسبة حلول فصل الصيف، وذلك بقصد أن يقدم للقراء المتعة والتسلية والإثارة بعيداً عن الهموم والمشاكل والبلاوي الزرقاء. اختلى الكاتب بنفسه، وراح يعصر ذهنه فاهتدى إلى قصة تبدأ بمشهد لرجل وامرأة جالسين على (البلاج) في وضعية توحي بالعشق، يقترب الراوي منهما فيسمع المرأة تقول للرجل:

- صدقاً لا توفي معي بهذا المبلغ، فكما تعلم يا روحي كل شيء صار ثمنه في النار، البندورة غالية، وكذلك الخيار والكوسا فما بالك بالدواء؟ إن ابنتي– لعلمك– مريضة، وإذا لم تأخذ الدواء في موعده قـد تموت.

رئيس التحرير يقرأ مطلع القصة المثير، فيفرح ويبتسم ويقول (يا سلام)، إلى أن يصل إلى قضية الغلاء المطروحة في الحوار فيغضب ويقول للصحفي الفقير:

- الظاهر يا ابني أنك لا تفهم؟ أنا قلت قصة مكشوفة، يعني قصة للترويح عن النفس وليس الحديث عن أسعار البندورة والثوم والدواء!

ويذهب الصحفي المسكين مرة أخرى إلى البيت، ويعصر ذهنه، ويقرر أن يكون هو نفسه بطل القصة، ويلتقي بفتاة على شاطئ البحر، وهو ينوي أن يمرح معها، ولكنه منذ البداية يحذرها قائلاً:

- أرجوك يا مدام لا تفتحي لي أية سيرة لها علاقة بهموم الناس وارتفاع أسعار البطيخ والبندورة وصعوبة العيش، فأنا راتبي لا يكفيني حتى منتصف الشهر، مع أنني أعزب، وإن لم أكتب قصة مكشوفة صحيحة يسرحني سكرتير التحرير ويخرب بيتي، الله لا يخرب لك بيتاً. (وينفلت بالبكاء)!

     

دلالات
خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...