لمين الهدية؟
أعترف: عقلي صغير عندما يتعلّق الأمر بالهدايا. أزعل من كلّ قلبي إن كانت الهدية التي وصلتني، خاصة من أشخاص أحبّهم ويعنون لي الكثير. كيف أقول؟ عادية.. بمعنى عامة.
لا شيء فيها يؤكّد أنّها فعلاً لي. أي أنّها من الممكن أن تكون لك أو لها... لأي كان. تماماً، كطعم طبخة بيتية في المطاعم، مطبوخة كتسوية بين مختلف أذواق الزبائن. تلك هدية على حافة الإهانة.
وسبب استيائي الذي قد يصنّف قلّة ذوق، هو رغبتي بالمعاملة بالمثل. فأنا من المستحيل (تقريباً) ألا أفكر بالشخص الذي سأهديه. لا بل، إنّ رحلة البحث عمّا يعجبه أو يعجبها، تكون مثيرة وممتعة في ذاتها، تشغل الفكر والعين والحواس جميعها في اختيار هدية، تجعل عيني المُهدى تبرقان بالإثارة والسرور. إنّه لأمر يستحق فعلاً. إلى ذلك هي مناسبة أيضاً لكي تمتحن معرفتك بهذا الصديق، ولكي تتعرّف إليه أكثر: هل أصبت في ما قد يحب؟ هل أخطأت؟
فالهدية هي في جوهرها رسالة، تقول للشخص المهداة له: "أعرفك جيدا وأعرف ما يسعدك". مضاف إليها، لحظة فتح الهدية، ما يشبه السؤال: "أليس كذلك؟". ويكون الجواب ردّة فعل الشخص: صيحة فرح أو ابتسامة رضى وامتنان تترجم بقبلة على الخد أو... غالباً للأسف، خيبة أمل تُترجم بجملة مهذبة من نوع: "لشو تعذبت؟ ما كان في داعي".
فما الغرض من الهدية الواجب، أم إدخال الفرح على حياة من تحب في لحظة غير متوقعة (أو متوقعة)؟ ولم لا يكون الثاني في مناسبة السبب الأول؟ أصلاً أليس الشعور بالمفاجأة هو الغرض من تغليف الهدية؟ لذا عندما تفتح غلافها الملوّن، فتكتشف أنّ ما في داخلها عادي المحتوى، أو غير مناسب، أو ينم عن سطحية مصدرها مجرّد القيام بواجب المجاملة، عندها يكون عليك أن تعاني، لدواعي التهذيب، من جهد إخفاء خيبتك، مصطنعاً ابتسامة سرور، وهذه ليست مهارتي. لذا أعتقد أنه ربّما كان هذا بالضبط ما يزعجني في هدايا "الواجبات"، أو "رفع العتب" كما يقال.
هدايا المطار مثل قهوة المطار أو كرواسان المطار، بلا طعم. تجعلك تندم عدّة مرّات، مرّة عند دفع ثمنها ومرّة عند إهدائها
بعد الخيبة وإخفائها، يحلّ السؤال التالي: "ما الذي سأفعله بها؟". وهنا نصل إلى نوع آخر من الهدايا المزعجة، أي هدايا "إعادة التدوير".
أشهر هدايا هذا الصنف هي "دزينة" فناجين القهوة" أو "دزينة كاسات" الشاي، التي عادة ما تكون هدايا مُعاد تدويرها، أي أنّها قد سبق وأهديت لمن قدمها لك. لكنها لم تكن مناسبة، أو كانت فائضة عن حاجته أو مخالفة لذوقه، فاحتفظ بها مغلّفة بانتظار مناسبة يستطيع من خلالها التخلّص منها بإعادة إهدائها لصاحب مناسبة اجتماعية من نوع زواج أو انتقال إلى بيت جديد مثلاً.
حتى هنا، تلعب المخيلة والنوايا الطيبة دوراً في إعادة تدوير هذه الهدايا، بشكل يقوم على إعطائها لمن يحتاجها فعلاً، أو لمن تلائم ذوقه بتقديرك. لكن غالباً تطغى الرغبة بالتخلّص من هدايا كهذه، خصوصاً إن كانت كبيرة الحجم، كلوحة مثلا، أو مزهرية ضخمة، على تلك النوايا.
هناك أيضا هدايا المطار، وهي من أسوأ أنواع الهدايا. تشعرني هدايا المطار بالاستياء. فهي أولاً، مرتفعة الثمن بلا سبب، إضافة إلى أنها من غير الممكن أن تكون شخصية حتى عندما تكون شخصية، كنوع عطر تفضله مثلاً.
هدايا المطار مثل قهوة المطار أو كرواسان المطار، بلا طعم. تجعلك تندم عدّة مرّات، مرّة عند دفع ثمنها ومرّة عند إهدائها. هي هدية تقول لمن اشتراها: "ثمني غال صحيح، عقابا لك لأنك نسيت، أو تكاسلت عن شراء ما قد يهم فعلاً أحباءك، ولذا أنت مضطر لشرائي لتقول لهم إنك فكرت بهم ولو في اللحظة الأخيرة". حين تصلني هدايا مثل هذه أكاد أقول، لا بل أقول، وبنبرة بالكاد تخفي خيبة الأمل لمن أهداها: "لم تكن مضطراً، لم يكن هناك من داع". وهي بالفعل كذلك.
أن يعرفك صديق ما حقاً، وأن تتملكه تلك الرغبة في إسعادك، ولو بشيء بسيط. وأخيراً أن يستطيع ذلك، هو أمر نادر الحصول
مناسبة الكلام الفرحة التي شعرت بها على دفعات حين فتحت ذلك الصندوق الذي وصلني من بلاد بعيدة، بالرغم من كلّ مصاعب الوصول عبر بريدنا الأشبه بالسلحفاة، كما يشير تاريخ الإرسال البعيد نسبياً عن تاريخ استلامي له.
كنت في فراشي منذ فترة بسبب مرض ألّم بي، وكنت قد تلقيت هدايا كثيرة، أغلبها بيجامات للنوم (ربما لتشجيعي على البقاء في السرير) وعلب من الشوكولا التي كنت ممنوعة من استهلاكها، وبالطبع باقات زهور ممنوع أن تبقى في الغرفة.
دهشت لدى قراءتي اسم المرسلة: زميلة فرنسية عملنا معاً منذ زمن بعيد، وأصبحنا صديقتين إثر مهمة "تقصي حقائق" في بغداد بعد الاحتلال الأميركي بشهور قليلة في إطار تمثيلنا يومها لمنظمة "مراسلون بلا حدود".
لم أكن متفائلة بما يحتويه الصندوق، فقد اعتدت أن أتلقى هدايا "غير شخصية" بمعنى ما. فأن يعرفك صديق ما حقاً، وأن تتملكه تلك الرغبة في إسعادك، ولو بشيء بسيط. وأخيراً أن يستطيع ذلك، كان أمراً نادر الحصول. تماماً كما هي الأشياء الجميلة نادرة الحصول.
يمكن لأصغر الهدايا وأقلها قيمة مادية أن تشعرك بالامتنان
لكن ذلك الصندوق كان أشبه بلعبة "ماتريوشكا" الروسية، فداخل الصندوق كانت هناك علب عديدة وأكياس من المخمل والموسلين، ولدى فتح كلّ واحد منها، كنت أفاجأ بمدى الجهد الذي صرفته تلك الصديقة، ولمدّة طويلة، في اختيار ما ستضعه فيها، خصوصاً مع علمها أنّي طريحة الفراش لفترة. كانت هناك صور لنا معاً في بغداد مطبوعة على حقيبة، كأنها تقول لي: "هيا تعافي بسرعة لنعود إلى العمل". كانت هناك أيضا، كتب كنت قد قلت مرّة إني أريد قراءتها عندما تترجم، وهي تذكرت ذلك، رغم مضي وقت طويل. قرص مدمج عليه فيلم (مقرصن) لمخرجي الإيطالي المفضل ناني موريتي، كما كان هناك كتاب شعر، وآخر إصدار لمجلة رسوم مصوّرة أحبّها..
بالطبع ليس المقصود من هذا الكلام القول إنه يجب أن تكون الهدية مكلفة. فمن الممكن حتى للهدايا المكلفة أن تكون مخيّبة للأمل. كما يمكن لأصغر الهدايا وأقلها قيمة مادية أن تشعرك بالامتنان، كتلك الرسالة التي رافقت الصندوق في رحلته إلى لبنان من ريف فرنسا، حيث استقرت تلك الصديقة، والتي كانت تحوي صورة لها ولصديقها في مزرعتهما وهما يطعمان البط والدجاج وقد كتبت على قفاها جملة واحدة، مختارة بعناية: "أنا هنا دائماً أنتظر زيارتك".
لمثل تلك الصديقة، سأفكر كثيراً في هديتي التالية. فقد اشتريت صندوقاً فارغاً بالفعل وبدأت أبحث عمّا قد أضعه فيه، غير مودتي الخالصة.