لماذا لا تحب أوروبا أن يكون كأس العالم في قطر؟

23 نوفمبر 2022
+ الخط -

محور الكون، وأساس الخليقة، والعرق المتفوّق الأبيض على بقية الرعاع في شتى البقاع، معلمو العالم وأساتذته، الذين يتفضلون على البشرية ببقايا إرثهم وحضارتهم، لا أحد من حقه أن يخطّ حرفاً بغير لغتهم، ولا أن يرسم رسمةً خارج لوحتهم، ولا أن يبني صرحاً ليس على طرازهم، ولا مكان في الدنيا يستحق أن يكون محور الأرض ولو ساعةً، دونهم، الأذكياء الأقوياء، الأثرياء، النجباء، كأنّ الأرض لم تكن حُبلى بغيرهم، أما غيرهم، فهم أولاد حرام من كوكب آخر، حتماً.

قطر؟ ما هذا الاسم؟ أين تقع هذه البقعة؟ دولة؟ وهل يعرف العرب معنى الدول؟ وهل تطاول الرعاة في البنيان؟ وهل عرف الحفاة امتطاء الأحذية؟ هل تدرّ رعاية الغنم وسقاية الإبل دخلًا يمكّن من بناء البيوت وتعليم الشعوب حتى تمكنهم من بناء الملاعب؟

الإجابة في البترول!؟ عبارة عن جهلاء منحتهم الطبيعة أنفس بضاعة في الدنيا، فيتمكنون بها من بناء قصور وقلاع ومدن رياضية لا بأس، لكن هل تمكنهم عقولهم من استضافة كأس العالم؟ أليست عبارة عن صحراء، تغوص فيها أقدام الجِمال، بأرض عربية قاحلة، لا تعرف شرقها من غربها من كثرة الفضاءات فيها؟ أكّد لي توماس إدوارد لورنس، ذلك من قبل، وأكدت لي "هوليوود" أنّ هناك رجالًا يضربون أعناق النساء بالسيوف كلّ صباح، ومتشدّدين بلحى طويلة وثياب قصيرة يفجرون أكثر مما يفكّرون.

لم تكن أوروبا تتصوّر الصدمة الحضارية التي تحطم أوهامهم عن بلد عربي مسلم، يُرفع فيه الأذان على مدار اليوم، وتنجز فيه الأعمال وتنمو الأموال، وفي النهاية، يلبسون ثيابًا ليست على طرازهم، وإنما على هوى أهل البلد أنفسهم، ويتكلمون لغتهم دون حاجة إلى الإنكليزية ولا الفرنسية، ويعتنقون ديناً لا يجعلهم يترهبنون في الكهوف ولا يهدمون الحضارات، وإنما يدعوهم إلى البناء الذي يعلي من قيمة الفرد والمجتمع، والهويّة.

لم تكن الصحف الغربية تصدّق أنّ هناك دولة ستستضيف كأس العالم بالفعل، من خارج الإطار الغربي/ الأوروبي

لم تكن الصحف الغربية تصدّق أنّ هناك دولة ستستضيف كأس العالم بالفعل، خارج إطارهم، وليست في أقاصي أفريقيا ولا أميركا اللاتينية، وإنما في الشرق الأوسط المتخلف (حسبما يرون)، ثم إنّ هذه الدولة تقف في زي المحافظ المتمسّك بهويته وتقاليده، أليس مبهوراً بقيم الغرب ومبادئه؟ أليست ترانا المعلم الأول؟ كلا، لم تكن قطر مبهورةً بالطراز الغربي، وإنما جاءت هويتها بالعقال والغترة، واستادها الأكبر الخيمة، ويتقدم الجمَل حفل افتتاحها، وتفخر بماضيها وتعتز به.

العرب أكبر من برميل بترول، كانت هذه هي الرسالة المزعجة، كيف سنقنع العامة بغير هذا الآن وقد رأوا في الدوحة ما رأوا؟ ثم يريدون منع الأعلام الملوّنة! (يا لها من جرأة غير عادية لدويلة صغيرة في شرق حقير في عيونهم!)، فمن يمتلك صفحة لا تنتمي لأجندة أوروبا؟ ومن يمتلك مبادئ مختلفة عن مبادئ الجمهورية في فرنسا؟ من يستطيع مجابهة قيم الألمان؟ الحرية الأوروبية كما وضعوها هم، كما عرفوها، وكما أرادوا تعميمها في كلّ مكان، تقابلها "تقاليد" عربية، تقاومها، ترفضها، تجابهها، بل.. وتمنعها!

ما جعل من هذا المونديال أكبر من مجرد مونديال، (وهو بذاته حدث مهيب)، الاختلاف الثقافي، والبروباغندا العكسية، الدعاية الصفراء والسوداء، والدعاية الملوّنة الأخرى، التي تحذر العالم من قطر، وتدعوهم إلى المقاطعة، وعدم الاحتفال هناك حتى إذا شاركوا، لأن "هذه الدولة الرجعية" التي تنتهك حقوق العمال، وقتلت ستة آلاف منهم في أعمال بناء الملاعب. وبغض النظر عن هذه الدعاية الكاذبة والتقارير المزيفة التي كشفتها صحافة البيانات بامتياز، وفنّدتها التحقيقات الاستقصائية، فإنني أتعجب أنّ المتحدث أوروبيّ، ويجرؤ على الحديث في هذا؟!  هذا الذي يلقي الاتهامات من قصر على الأرجح بناه أفريقيون سود، جُلبوا من أدغال أفريقيا، عبيداً نزعوا عنهم صفة الإنسانية، وجردوهم من حقوقهم، ووضعوا في أرجلهم الحديد، وفي أياديهم الفؤوس وقالوا لهم: ابنوا لنا حضارةً، واصنعوا لنا تاريخاً، وانحتوا لنا من الجبال بيوتاً، ولا تنطقوا، فهذا قدرنا وهذا قدركم، خلقت الدنيا من سادة بيض وعبيد سود.

بالنسبة لنا، في عالمنا العربي، نعتبر العالم مكوّناً على الأقل من ثلاث طبقات، العالم الأول، والثالث، والثاني الذي لا هذا ولا ذاك، ويوجد رابع وخامس ومائة في بلاد المجاعات والعطش، أما بالنسبة لهم في أوروبا، فالعالم مكون من طبقتين لا أدنى ولا أكثر، "الأوروبيين"، والآخرين.

العالم بالنسبة للأوروبيين مكوّن من طبقتين لا أدنى ولا أكثر: الأوروبيين، والآخرين

ومن العجب أنّ الذي يتحدث عن حقوق الإنسان في قطر، يرمي اللاجئين في البحر، ويلقي بالجزائريين في نهر السين في فرنسا، ويخرق قواربهم على حدود اليونان، ويحرقهم أحياء في قصفهم في العراق وأفغانستان، ويسرق ثرواتهم في غانا ونيجيريا ومالي، ثم ينتج أفلاماً عنهم تصوّرهم همجاً ينتظرون ظهور العلم الأميركي أو الحملات الأوروبية في نهاية الفيلم لتكون المسيح المخلص.

صحيح، لم يكن من حق قطر أن تخالفهم، كان من حق الأوروبيين أن يثملوا حتى الصباح في شوارع قطر وأمام بيوتها، وأن يمارسوا ما يريدون على مرأى العامة، وأن يرفعوا كل ما لوّنوا من أعلام، ويعلنوا كلّ ما أرادوا من "مبادئ" دون اعتراضهم، لأنّ الكوكب عندهم له طرف واحد فقط، هو الحاكم، وليس من حق الآخرين أن يقولوا لا، ولا أن يكون للعالم محور في مكان آخر غير القارة العجوز.

انصدمت أوروبا، والأوروبيون، بأناس غيرهم، شعوب لا تشبههم، لكنهم بشر مثلهم؛ يصلّون في اليوم خمس مرات، ويذهبون إلى أعمالهم في الصباح، ويأتون منها في المساء، ولهم أسَر وبيوت وعائلات وحياة، ويستطيعون التفكير والتنظيم والتشييد والبناء، ولهم في كلّ مجال باع وذراع، ولهم قيم ومبادئ غير مستوردة، وحروف أصيلة، ولغة سامية، ويستطيعون العيش من دون أن يكونوا، يوماً، في مرتبة ثانية، بل ويجرؤون على القول بلسان مبين، ورقاب مرتفعة، وأنوف في السماء: نحن العرب!

الرسالة الكبرى التي نجحت فيها قطر منذ لحظة الافتتاح، وبدت جليةً في كلّ التفاصيل والهوية، أنها قالت لهم: هلا.. هيا بيكم ارحبوا.. ولكن "باحترامكم، وشروطنا". لهذا ربما لم تكن أوروبا تحب أن تنظّم قطر، ولا أي دولة عربية مسلمة تعتز بهويتها، كأسَ العالم.