لماذا علينا أن نقرأ تاريخنا

13 فبراير 2022
+ الخط -

التاريخ هو المساق الإلزامي المملّ الذي رافقنا خلال مراحل دراستنا المدرسية، كثيراً ما وقف أمامنا في ساعات الذروة شمرور أو رمسيس أو الهرم الأكبر كما كان يحلو لنا أن نسميه، ليسرد علينا أحداثاً وأسماء وأرقاماً ظنناها فلكية وجدنا حفظها ضرباً من ضروب الخيال، فعقولنا الصغيرة وأجسامنا النحيلة وقتها كانت تفتقر لصلابة البحار وشجاعة الغواص، فالإبحار في هذا الكم الهائل من الأحداث التاريخية لم يكن ليغري أحلامنا البسيطة وقتها.

كثيراً ما تراكضت الأفكار في عقولنا الصغيرة، لماذا نحن مجبرون على هذا الضنك (شمرور وحر الصيف، هذا ما كان ينقصنا)، فما لنا ولحمورابي (1750 ق.م) وألواحه؟ هل ضُربت (1257م) شجرة الدر بالقباقيب حتى الموت أو لم تُضرب؟ ما شأننا؟ ماذا ستضيف معركة كمعركة القادسية (636م) أو حطين (1187م) أو حتى معركة وادي المخازن (1578م).. إلخ لحاضرنا ومستقبلنا الذي يتراءى أنه يسير عكس أحلامنا وتطلعاتنا؟

إلا أننا عندما كبرنا وقررنا الولوج في بحر التاريخ واتخاذه مهنة على مضض، وجدنا أننا ظلمنا التاريخ فعشقنا الإبحار والغوص في أحشائه، فلم تعد تهمنا اعتراضات المتنمرين الذين لازمونا كظلنا على ضوء القمر في ظلام الليل الحالك، فتنمرهم شدّ من وثاق أشرعتنا المتعالية عنان السماء التي تنتظر هبوب رياح الإقلاع بفارغ الصبر لتبحر في ظلمات البحر الهائج أو ما ظنّنا أنها ظلمات.

بدايتنا لم تكن موفقة.. فلم يمر عام على إبحارنا حتى تناقص عدد بحارتنا من أحد عشر بحاراً إلى ثلاثة، فهول الصدمة أحبطهم والمتنمرون أغووهم، فكلية العلوم أو الهندسة أو الحقوق أو حتى الصحافة قد تصنع لهم مستقبلاً يغنيهم عن حديث الببغاء المتكرر الممل، هنا وقف عبد الله الصغير يبكي ضياع الأندلس (1492م)، وبالقرب من أشلاء أهل بغداد نصب هولاكو خيمته (1258م)، وفي دمشق داس الجنرال الفرنسي (غورو) على قبر صلاح الدين (1920م) قائلاً بكل غطرسة: (استيقظ يا صلاح الدين، لقد عدنا، وجودي هنا يكرس انتصار الصليب على الهلال).

اتسعت سفينتنا باتساع دولتنا العليا نفتتح معها سواحل وبلداناً، أصبحنا أسياد البحر رغم أنف المتنمرين، هذا تاريخنا، وإن ولدنا وعشنا وعايشنا نكباته بسقوط القدس (1967م)

اهتزت معنوياتنا بفراقهم، ولم ترحمنا ألسنة المتنمرين، قائلين: لن تدفعكم درة عمر بن الخطاب نحو هدفكم، وأوشكنا على العودة، إلا أن البر أصبح أثراً بعد عين، ولم يعد أمامنا سوى الإبحار، فتسلحنا بالصبر والإصرار، وقررنا الخوض في طريقنا الذي وجدناه مضيعة للوقت، كثيراً ما اهتدت سفينتنا نحو موانئ مهجورة، وكلما ظننا أننا وصلنا انقطعت عنا الرياح ودفعتنا للتفكير بالعودة.

ووسط هذا اليأس الذي كان يتملكنا ألهمتنا سيرة نبينا محمد (610م) الذي صنع من توكله على الله والتأييد منه دولة أضاءت نوراً غيّر تاريخ البشرية للأبد، فأبحرنا بدرة عمر بن الخطاب، وشققنا الطريق مع سيف الله المسلول خالد بن الوليد نحو معركة اليرموك (636م) وشهدنا القادسية (636م) ونهاوند (642م)، هناك تراءت لنا حشود المسلمين وسيوفهم تدك معاقل الروم والفرس، فأبهرتنا رايات المسلمين على أسوار فارس وبابل والقدس ودمشق وحلب، ومع عمرو بن العاص سرنا نحو مصر فشهدنا فتحها (642م) ويا له من فتح، ورأينا الحسين خير شباب أهل الجنة فارساً مغواراً يكسر أغلال الظلم ويأبى الاستسلام (680م).

شهدنا تلاحم الأحبة بين عقبة بن نافع وأبو المهاجر دينار الذي أخلى عقبة سبيل من كان عدوه في الأمس وتفنن في إذلاله، وحينما أحكم كسيلة وجنوده الحصار عليهم، أبى المُهاجر أن تُفكَّ قُيوده كي لا يُغرى بالانسحاب والفرار، فكسروا أغماد سُيوفهم فكفناهم شهداء (683م)، هناك حيث الأندلس حملنا رايات بني أمية مع طارق بن زياد وهزمنا ملك القوط لذريق (رودريك) شر هزيمة في 28 رمضان 92 هـ (711م).

شهدنا مع فجر الدولة العباسية هزيمة الصينيين في معركة نهر طلاس (751 م)، ورأينا حيرة أبو جعفر المنصور (775م) في صفير البلبل، أدهشنا عظمة دولتنا حينما قال هارون الرشيد (809م) للغمامة: (يا أيتها الغمامة أمطري حيث شئتِ، فإن خراجكِ عائد لي)، وغضبنا وثُرنا مع المعتصم لله للمرأة العربية الحرة التي صرخت (وااامعتصماه)، فعبرنا بلاد الروم مع جيوش المعتصم لله التي أولها في بلاد الروم وآخرها في بغداد، وهدمنا عمورية على رأس سيدها المتغطرس (838م)، وأكملنا طريقنا فهزمنا مع إلب أرسلان جحافل الإمبراطور الروماني (مانويل كومنينوس) في معركة ملاذكرد (1071م).

هاج بنا البحر وماج على هول رايات الصليبيين تغزو مشرقنا، أغضبنا سقوط القدس (1099م) وتخاذل الوزير الفاطمي بمصر الأفضل (1121م) عن نصرة إخوته السلاجقة، فقفلنا عائدين فنادنا صلاح الدين مهلاً أنا القدس وسيدها فراياتي ترفرف على أسوارها من بعد حطين (1178م)، فنزلنا معه محاربين حينما انتفضت أوروبا وأرسلت جل ملوكها الغازين، فهزمناهم وحفظنا قدسنا الشريف (1192م).

أغضبنا غرور سيد خوارزم علاء الدين (1220م) الذي جاورت حدود دولته دولة المغول، فأثار علينا إمبراطورها جنكيز خان (1227م) بغطرسته، فهالتنا وأرهبتنا جحافل المغول تدك حواضرنا في بخارى وسمرقند وهرات حتى حدود العراق، أحزننا تخاذل المستعصم بالله (1258م) وانكبابه على ملذاته، فشهدنا سقوط عاصمة الرشيد (1258م) وأفزعتنا جرائم هولاكو (1265م) وجنوده، ووقفنا نبحث عن مكتبة دار الحكمة في نهر دجلة، وبكينا ألماً وقهراً على مئات الآلاف إن لم يكن ملايين من المخطوطات التي تحدثنا عن تاريخنا.

قررنا القفول للمرة الثانية فاستوقفنا قطز وقد جعل من سهول عين جلوت (1260م) مأتماً للمغول وغرورهم، فأبحرنا وأبحرنا فشهدنا عظمة المماليك (1258م) ودولتهم، وآلمنا سقوط الأندلس (1492م)، وشهدنا بشارة نبينا محمد عندما قال: (لتفتحن القسطنطينية (1453م)، فلنعم الأمير أميرها، ولنعم الجيش ذلك الجيش)، ومن دار الإسلام (إسطنبول) مع سليمان القانوني (1566م) انطلقنا ندك حصون الروم حتى فيينا (1683م).

اتسعت سفينتنا باتساع دولتنا العليا نفتتح معها سواحل وبلداناً، أصبحنا أسياد البحر رغم أنف المتنمرين، هذا تاريخنا وإن ولدنا وعشنا وعايشنا نكباته بسقوط القدس (1967م) بيد اليهود، وتشتت كلمة أمتنا من حدود الصين شرقاً إلى طنجة أقصى الغرب ومن أواسط أفريقيا إلى الشيشان وكازاخستان شمالاً، فإن دوام الحال من المحال، فأمتنا ولادة ودماء العظماء تجري في أرحام نسائنا.

دلالات
4F8E0C37-3F8E-44E8-B648-FE320CF4039B
هيثم الجرو

مدون وقاص فلسطيني حاصل على شهادة في التاريخ والآثار من الجامعة الإسلامية بغزة، يحضّر رسالة الماجستير في التاريخ المعاصر بجامعة "إسطنبول مدينيت" في تركيا.