مأساة سقوط الجزائر

09 يونيو 2022
+ الخط -

في الوقت الذي كانت كيانات المغرب تتصارع في مطلع العصر الحديث، كان ملوك وأباطرة أوروبا، لا سيما فرنسا وإسبانيا والبرتغال، يسعون جاهدين للاستيلاء على بلاد المغرب، فاشتدت غاراتهم وحروبهم على المغرب واتسمت بالوحشية والشراسة وسلب الأموال، وقتل البشر واسترقاقهم، فتمكنت إسبانيا والبرتغال من السيطرة على عدد من المدن المغربية على طول الساحل من طرابلس الغرب (ليبيا) وحتى أم العرائش (المغرب).

وفي خضم هذه التطورات المريرة، ظهر على مسرح الأحداث خير الدين بربروس الملقب بـ(ذي اللحية الحمراء)، الذي تمكن هو وإخوته عروج وإسحاق من إخراج الإسبان من الجزائر العاصمة، ثم أنشأ أسطولا بحريا بمؤازرة من العثمانيين، فوحد الأقاليم المغاربية تحت علم الدولة العثمانية من تلمسان غربا إلى طرابلس الغرب شرقا، وأسس دولة الجزائر.

فتمكنت الجزائر من بعده من فرض نفسها بقوة في حوض البحر الأبيض المتوسط، وأرغمت القوى الأوروبية على الاعتراف بالجزائر كقوة بحرية يحسب لها ألف حساب، وظلت الجزائر لعدد من قرون سيدة حوض البحر الأبيض المتوسط، إلى أن قامت الثورة الفرنسية التي سارعت الجزائر وقتها للاعتراف بها ومؤازرتها.

إذ سمحت الجزائر لليهوديين من أصل إيطالي، وهما بكري وبوشناق، بتصدير القمح الجزائري إلى فرنسا في السنوات الأولى للثورة الفرنسية، على أثر فرض الدول الأوروبية المناهضة لمبادئ الثورة الفرنسية حصارا بريا وبحريا ضد فرنسا، فقام هذان اليهوديان، بكري وبوشناق، بشراء القمح الجزائري بثمن بخس ومن ثم بيعه لطرف الفرنسي بثمن مرتفع، وكان ثمن هذا القمح يعتبر قرضاً دولياً بسبب دخول الحكومة الفرنسية وقتها وداي الجزائر كطرفين في صفقة القمح.

مع مرور الوقت بدأت الخزينة الفرنسية تمر بظروف صعبة بسبب حروب نابليون بونابرت، لذلك قامت الحكومة الفرنسة بتأجيل دفع الأقساط التي عليها، فتراكم الدين الفرنسي عن شحنات القمح الجزائري إلى أن وصل إلى 8 ملايين فرنك فرنسي.

وفي عام 1819، وبعد سقوط حكومة الثورة الفرنسية بعد هزيمة نابليون بونابرت في معركة واترلو، طالب اليهوديان بكري وبوشناق فرنسا بدفع المبلغ الذي ارتفع 24 مليون فرنك، وبعد عدد من جولات المفاوضات بشأن الدين تم تخفيض المبلغ المستحق من 24 مليون فرنك إلى 7 ملايين فرنك، ووافق اليهوديان بكري وبوشناق على هذا التخفيض كتسوية نهائية للمسألة.

إلا أن الغريب في الأمر أن الحكومة الفرنسية قررت اقتطاع المبلغ المتفق عليه من دين اليهوديين بكري وبوشناق/ اللذين كانا يحملان الجنسية الجزائرية، واللذين قررا بسبب تطور مسألة الدين عدم العودة للجزائر.

هنا اعترض الداي حسين على تدخل الحكومة الفرنسية بين دولة الجزائر واليهوديين بكري وبوشناق، وطالب الداي الحكومة الفرنسية بدفع الديون المستحقة للجزائر وإعادة اليهوديين بكري وبوشناق إلى الجزائر بحكم أنهما من رعايا الجزائر في فرنسا، إلا أن الحكومة الفرنسية لم تستجب لمطالب الداي.

استقبل سكان مدينة الجزائر هذا الاستسلام بحزن، وحمل الكثيرون منهم أمتعتهم وغادروها نحو قسنطينة رافضين الإقامة تحت حكم الفرنسيين

وفي خضم هذه الأحداث وتطوراتها، كانت قد جرت العادة أن يقوم قناصل الدول الأوروبية المعتمدون لدى الجزائر بزيارة الداي بمناسبة عيد الفطر، ومن بينهم السید دوفال، القنصل الفرنسي، الذي قدم التهاني بمناسبة عيد الفطر، وخلالها دار حديث بين الداي حسين والقنصل الفرنسي حول الديون المستحقة للجزائر لدى فرنسا، إلا أن القنصل الفرنسي رد على الداي حسين رداً غير لائق، قائلا: "إن ملك فرنسا لا یتنازل لمراسلة داي الجزائر"، فأمره الداي بالخروج، إلا أن القنصل لم يخرج، فلوح له الداي بالمروحة التي كانت في يده، وقيل إنه ضربه بها على وجهه، فسميت هذه الحادثة باسم حادثة المروحة.

وتطور الأمر، إذ اعتبرت فرنسا أن ما تعرض له القنصل الفرنسي في حضرة الداي إهانة لفرنسا، ولذلك في 12 يونيو/حزيران عام 1827 بعث شارل العاشر، ملك فرنسا، الأسطول الفرنسي للجزائر بحجة استرجاع مكانة وشرف فرنسا، وجاء قبطانها إلى الداي حسين وعرض عليه الاعتذار للقنصل، إلا أن الداي حسين لم يرض بذلك، ففرضت البحرية الفرنسية حصاراً مشدداً على الجزائر لمدة ثلاث سنوات.

كانت فرنسا قد أعدت العدة لغزو الجزائر منذ يناير/كانون الثاني عام 1830، وقد ألفت لذلك عددا من اللجان للإعداد للحملة العسكرية، وقررت أن تكون عملية الإنزال في منطقة سيدي فرج، وفي 7 فبراير/ شباط من العام نفسه، أصدر الملك الفرنسي شارل العاشر مرسوماً ملكياً يعلن التعبئة العامة، وأعلن في خطاب العرش: (أن الحملة انتقام للشرف الفرنسي، وأنها حملة مسيحية على بلاد المسلمين المتوحشين، وأنها خدمة للعالم المسيحي).

أما عن حجم الحملة الفرنسية من حيث العدة والعتاد والرجال، فوصل عدد جنود الحملة إلى 37 ألف جندي، وعدد الخيول 45 ألفاً، 91 مدفعاً، 600 سفينة، منها 103 سفن حربية، وقد تم تنظيم القوات في ثلاث فرق مشاة، وكتيبتين من الفرسان، وبطاريات من مدفعية الميدان والحصار.

ولم تكن فرنسا لتجرؤ على الإعداد لغزو الجزائر لولا هزيمة العثمانيين في معركة نافارين البحرية التي وقعت في 20 أكتوبر/ تشرين الأول عام 1827 خلال حرب الاستقلال اليونانية (1821 - 1832)، في خليج نافارين، التي بسببها دمر الأسطول الجزائري بشكل شبه تام.

غادرت الحملة الفرنسية بقيادة الجنرال بورمون من ميناء طولون الفرنسي المطل على البحر المتوسط في 25 مايو/ أيار عام 1830، فوصل أسطولها إلى الجزائر في 13 يونيو/ حزيران، وتوجهت إلى سيدي فرج القريب من العاصمة الجزائر، ثم بدأت القوات الفرنسية بعملية الإنزال، فسارعت القوات الجزائرية بقيادة صهر الداي إبراهيم آغا، التي كان تعدادها 6 آلاف مقاتل متواضعي التسليح والتدريب، فشنت هجوماً قوياً في يوم 19 يونيو على القوات الفرنسية، ودارت معركة شديدة أسفرت عن انهزام القوات الجزائرية في معركة سطاوالي.

بعد الهزيمة في سطاوالي وفرار إبراهيم آغا، تقدم الفرنسيون نحو قلعة مولاي حسن الحصينة المعروفة باسم "قلعة الإمبراطور"، فقامت السفن الحربية الفرنسية بقصف القلعة وتمكنت من فتح ثغرات فيها، وفي هذا الوقت تم تعيين قائد جديد للقوات الجزائرية هو الباي مصطفى بو مزراق بدلاً من إبراهيم آغا.

وعلى الرغم من مقاومة المقاتلين الجزائريين البطولية في القلعة مقاومة شرسة، إلا أن النيران تسربت إلى أحد مخازن البارود الصغيرة ببرج القلعة، فأحدثت انفجاراً مهولاً دمر أجزاء من القلعة، فاستغل الفرنسيون هذا الانفجار واحتلوها بعدما تكبدوا خسائر كبيرة.

وبعد سقوط القلعة صار الفرنسيون يهددون مدينة الجزائر من هذه القلعة وتحصيناتها المشرفة على القصبة (قصر الداي)، بعدما نصبوا عليها مدافعهم، ووجهوا فوهاتها إلى مدينة الجزائر، ومن البحر كان الأسطول الفرنسي يصوب مدافعه إلى مدينة الجزائر.

في النهاية عندما أحس الداي حسين أن المدينة صارت في حكم الساقطة، قرر الاتصال بالفرنسيين فأرسل أحد أمناء سره، وهو كاتبه الخاص مصطفى قادري، لمفاوضتهم، وقابل الجنرال بورمون وعرض عليه تعويضات سخية تقدم له مع الاعتذار، مقابل عودة الجيش الفرنسي، لكن الجنرال اكتفى بعرض شروط الاستسلام بلا شرط، وأرسل الجنرال بورمون إلى الداي نص المعاهدة الآتية:

1. تسلم قلعة القصبة وكل القلاع الأخرى المتصلة بالمدينة وميناء هذه المدينة إلى الجيش الفرنسي هذا الصباح الساعة العاشرة.

2. يتعهد القائد العام للجيش الفرنسي أمام سعادة باشا الجزائر أن يترك له الحرية وكل أمواله الشخصية.

3. يكون الباشا حراً في أن يتوجه هو وأسرته وثروته الخاصة إلى المكان الذي يختاره، وإذا فضل البقاء في الجزائر فله ذلك هو وأسرته، تحت حماية القائد العام للجيش الفرنسي، الذي سيعين له حرساً لضمان أمنه الشخصي وأمن أسرته.

4. يتعهد القائد العام أن يقدم لكل الجنود الإنكشارية المعاملة نفسها والحماية نفسها.

5. سيظل العمل بالدين الإسلامي حراً، كما أن حرية السكان مهما كانت طبقاتهم ودياناتهم وأملاكهم وتجارتهم وصناعتهم لن يلحقها أي ضرر.

وقع الدّاي حسين على المعاهدة التي هي عبارة عن شروط استسلام، وسلمت مدينة الجزائر في صباح 5 يوليو/ تموز عام 1830، وفي يوم 6 يوليو دخل الجنود الفرنسيون مدينة الجزائر، وأنزلت أعلام دولة الدّاي عن جميع القلاع والأبراج، وارتفعت في مكانها رايات الاحتلال الفرنسي وأقيمت صلاة للمسيحيين، وخطب فيها كبير قساوسة الحملة، فقال مخاطباً قائد الحملة الفرنسية: "لقد فتحت باباً للمسيحية على شاطئ أفريقيا".

وباستسلام الدّاي حسين وتسليم الجزائر للمحتل الفرنسي يكون بذلك انتهى العهد العثماني أو التركي في الجزائر الذي دام (326) عاماً، واستقبل سكان مدينة الجزائر هذا الاستسلام بحزن، وحمل الكثيرون منهم أمتعتهم وغادروها نحو قسنطينة رافضين الإقامة تحت حكم الفرنسيين.

وفي يوم 10 يوليو من عام 1830 رحل الدّاي حسين عن مدينة الجزائر، وتوجه إلى نابولي بإيطاليا ثم التحق بفرنسا، وأخيراً توجه إلى الإسكندرية بصحبة حريمه وأتباعه، وحمل معه خزينته، وكان بها نحو تسعة ملايين فرنك وكميات كبيرة من المجوهرات، والتقى بمحمد علي باشا حاكم مصر، الذي لم يحسن الترحيب به، وأقام في مصر حتى وافته المنية في الإسكندرية عام 1834.

دلالات
4F8E0C37-3F8E-44E8-B648-FE320CF4039B
هيثم الجرو

مدون وقاص فلسطيني حاصل على شهادة في التاريخ والآثار من الجامعة الإسلامية بغزة، يحضّر رسالة الماجستير في التاريخ المعاصر بجامعة "إسطنبول مدينيت" في تركيا.