لماذا اختفى البطل القبطي من شاشتنا؟ (1 من 5)

19 ديسمبر 2021
+ الخط -

"إذا اتفقنا على أنّ المؤمن مرآة أخيه وأنّ السينما مرآة المجتمع، فسيكون مثيراً للانتباه والأسف أنّ السينما المصرية فشلت في أن تكون مرآة لمجتمعها بشكل حقيقي، لأنها لم تقدم سوى عدد قليل من الأفلام والمسلسلات التلفزيونية تظهر فيه شخصيات قبطية/مسيحية في أدوار البطولة، ولأنّ عدد النجوم الكبار الذين قاموا منذ أواخر الستينات بتمثيل أدوار مواطنين مسيحيين كان شديد الندرة، ولأن ظهور المواطنين المصريين مسيحيي الديانة في السينما والدراما التلفزيونية لا يتناسب بالمرة مع وجودهم الفعلي كجزء من نسيج المجتمع المصري. كل هذه حقائق لن يكون مجدياً أن نهرب من مواجهتها والتساؤل عن أسبابها بجرأة ومسؤولية، أما إذا قررنا أن نتجاهلها بترديد المزيد من الشعارات والعبارات الطنانة عن الوحدة الوطنية والأخوة والمصير المشترك، فهذا موضوع آخر".

اخترت أن أبدأ بهذه السطور تحقيقاً صحافياً قمت به في مجلة (المصور) في عام 1999 عن طريقة ظهور الشخصية القبطية في الدراما السينمائية والتلفزيونية في مصر، ولأنّ الأجواء كانت مشتعلة وقتها بعد وقوع أكثر من حادث فتنة طائفية، وقيام الولايات المتحدة وعدد من الدول الأوروبية بدعوة الحكومة المصرية إلى الاهتمام بالأوضاع المتردية للأقباط بعد عدد من أحداث الفتنة الطائفية، وهو ما كانت تقابله الصحف والمجلات القومية بهجمات تدين تلك الدعوات بوصفها تدخلاً في الشئون الداخلية لمصر، وتعتبر أن أوضاع الأقباط في أحسن حال ولا توجد بها أي مشكلة، وبرغم كل ذلك فقد تحمس رئيس تحرير مجلة (المصور) الأستاذ مكرم محمد أحمد للتحقيق، ورفض التحفظات التي أعلنها بعض أعضاء مجلس التحرير على التحقيق الذي جاء نصه كالتالي: 

من حقك أن تسأل بالطبع عن المبرر الذي يدفعنا الآن لفتح هذا الملف؟ فلدينا بدل المبرر اثنان، أولهما أنّ دور العرض السينمائي تستعد خلال أسابيع لعرض فيلم "كلام في الممنوع" للمخرج عمر عبد العزيز والذي يقدم لأول مرة منذ سنوات طويلة شخصية قبطية تلعب دور البطولة بشكل فعال وبعيداً عن الكليشيهات السينمائية السائدة، وثانيهما أن فيلمين آخرين لكاتبين من أهم كتاب السينما المصرية تعثر إنتاجهما حتى الآن بسبب معالجتهما الجادة والمختلفة للعلاقة بين المسلمين والأقباط في مصر.   

في الدورة الأخيرة للمهرجان القومي للسينما المصرية، وبعد عرض فيلم "كلام في الممنوع" المشارك في مسابقة المهرجان، أقيمت ندوة للفيلم شارك فيها مخرجه عمر عبد العزيز ونجماه نور الشريف وماجد المصري، ووقف شاب ملتحٍ كان غاضباً بشكل واضح، وربما لأنه رأى نظرات البعض مرتابة منه ومن حدته، فقد قرر أن يعرف نفسه بأنه مساعد مخرج بالتلفزيون، ثم سأل بحدة: "لماذا عرضتم في الفيلم مشهداً كاملاً عن الطقوس الكنسية بينما لم تظهروا حتى ولو لقطة لمسلم يصلي؟"، وبعده بلحظات وقف شاب آخر ليسأل بحدة مماثلة: "لماذا أظهرتم المسيحي في الفيلم بصورة سلبية؟"، وكان واضحاً أن السؤالين على تباينهما ليسا سوى أثر جانبي لذلك الظهور القوى المفاجئ لشخصية قبطية في فيلم مصري، تظهر هذه المرة دون خطب أو شعارات وبوصفها شخصية إنسانية عادية تخطئ وتصيب.

حين سألت مؤلف الفيلم الكاتب الساخر ناجي جورج عن سر اختياره دخول هذه المنطقة الحرجة بدلاً من أن يرفع شعار "سكِّن تسلم"، قال لي بابتسامة عريضة: "لأنّ الواقع يفرض نفسه، يعني أنا فاكر إنه سألني مخرج زميل مرة ليه اخترت بطلك قبطي؟ فقلت له القبطي ليس شخصية نمطية لكي أختاره، القبطي مواطن موجود في المجتمع، ولازم يبقى ظهوره في الفيلم كشخصية درامية طبيعية ليها سلبيات وإيجابيات، وإلا لن يتقبله الناس بشكل جيد، وعشان كده في فيلمي لا أردد شعارات الوحدة الوطنية الجوفاء اللي أعتقد إنه من المضر بالبلد والشعب ترديدها، إذا كنا نؤمن فعلاً بإن الأقباط والمسلمين نسيج واحد".

قلت له: "لكنك ستواجه اتهاماً من بعض المسلمين بأنك أظهرت الطقوس المسيحية فقط بشكل غير مسبوق في السينما، ومن بعض الأقباط بأنك أظهرت القبطي بصورة سلبية"، فرد ناجى جورج قائلاً: "بصراحة أنا لم أكن موافقاً على مشهد الدفن حسب الطقوس الكنسية لكن الإنتاج صمم على هذا المشهد، وكان رأيي إن الجزء اللي فيه ترانيم ممكن يتشال من الفيلم، لكن السؤال الذى طرح في الندوة عن الموضوع ده كان سؤال عبيط لم أهتم به، إحنا مش هنجيب كفتي ميزان ونوزن حبة هنا وحبة هنا، ثم إن بطلي لم يكن سلبياً كما قال البعض، كما أنه لم يكن مقاتلاً، لابد أن نعترف أن هناك درجة من الاستشهاد المسيحي موجودة في تعاليم الدين المسيحي نفسه لكنها خارج نسيج المجتمع المصري الميال للتسامح والذى يذهب أحيانا للتطرف في لوم نفسه ومحاسبتها، وبعدين أنا أظهرت في الفيلم شخصية قبطية أخرى لبنت دكتورة تلعب دورها منى عبد الغنى وهى شخصية سيئة جدا لأنني ضد تنميط الشخصيات، صحيح أن بعض الممثلات الغبيات خفن من أداء دور القبطية السيئة لو صح التعبير، لكن الدور كان مرسوماً بشكل جيد، كذلك هناك دور أمينة رزق الوالدة العجوز التي تدعو لابنها وتقول "الرب يبارك لك"، يعني أعتقد أنني قمت بتقديم شخصيات متنوعة وبعيدة عن النمطية، وهذا أكثر ما يجب أن يهتم به الكاتب".

للأسف لم أتمكن من أخذ رأي منتج الفيلم هاني جرجس فوزي في النقطة التي أشار إليها ناجي جورج لأنه كان وقت أن قمت في التحقيق يقضي وقتاً في السجن بعد أن تعثر في سداد شيكات قام بتحريرها خلال إنتاجه لعدد من الأفلام، أما مخرج الفيلم عمر عبد العزيز فقد رفض التعليق وقال إنه قال كل ما يجب قوله في الفيلم ولا يحب أن يضيف شيئاً آخر.

وحين سألت ماجد المصري عن تعليقه على ردود الأفعال التي انتقدت الشخصية التي قام بها في الفيلم، نفى أن تكون الشخصية التي لعبها سلبية كما قال البعض، وأكد أنه لم يتردد للحظة في قبول الدور برغم دخوله في مناطق حساسة، مضيفاً "لو كنا بنقول فعلاً إننا أصحاب رسالة فلازم نلعب أي أدوار جريئة ومختلفة بدون تحفظ، وأنا دايماً اللي بيهمني إن الشخصية اللي ألعبها تكون مكتوبة حلو ودورها فاعل في الأحداث، وده اللي لقيته في الدور فعملته دون تردد".

فيلم هندي

منذ أكثر من ثلاث سنوات انتهى المخرج داود عبد السيد صاحب عدد من أهم أفلام السينما المصرية ـ مثل الكيت كات وأرض الخوف والصعاليك والبحث عن سيد مرزوق ـ من التحضير لتصوير سيناريو بعنوان "فيلم هندي" من تأليف السيناريست هاني فوزي، ولأن الفيلم كان يحكي عن العلاقة بين المسلمين والمسيحيين في مصر بشكل ساخر وبعيد عن المحفوظات الدرامية، فقد تعرض لأزمات عديدة مع الرقابة، كانت سبباً في إعلان صندوق التنمية الثقافية عن التوقف عن إنتاجه، ليبحث داود عبد السيد عن منتج آخر ويقوم بالتفاوض مع الرقابة في نفس الوقت، وبعد أن انتهت أزماته مع الرقابة وصل إلى اتفاق مع المنتج حسين القلا لكي ينتج الفيلم، واستطاع حسين القلا أن يقوم بالتوقيع مع محمد هنيدي ليلعب دور البطل المسلم وعلاء ولي الدين ليلعب دور البطل المسيحي، وبعد أن انفجرت نجومية محمد هنيدي بعد نجاح فيلم "إسماعيلية رايح جاي" استبشر القلا وداود عبد السيد وهاني فوزي خيراً، لكن فرحتهم لم تدم، حيث اعتذر هنيدي عن بطولة الفيلم بسبب انشغاله بمشروعات أخرى، وحين عرض حسين القلا الفيلم على محمد فؤاد، اعتذر بعد فترة من التفكير عن بطولة المشروع، وحسبما علمت فقد رفض المحمدان هنيدي وفؤاد بطولة الفيلم لأنهما خافا من تأثيره على جماهيريتهما، لأنه يقدم المسلم في شخصية الهلاس الذي يدخل في علاقات نسائية، ويقدم القبطي في صورة المتدين والملتزم والبعيد عن أي علاقات غير مشروعة. 

حين سألت المخرج داود عبد السيد عن الكثير من الأخبار التي تنشر حول أسباب تعثر الفيلم وتمتلئ بالعديد من المبالغات التي تخص السيناريو، قال لي غاضباً ومحبطاً: "هناك أخبار مغلوطة تنشر كثيراً لا علاقة لها بسيناريو (فيلم هندي) الذى تحول إلى موضة صحفية بسبب العنعنة والنقل البليد، وبدلاً من رضى الله عنه يبقى غضب الله عليه، والسيناريو ببساطة عن صديقين مصريين مسلم ومسيحي، تتعرض صداقتهما لأزمة ولكن لأسباب غير دينية لكن من حولهما يستعمل الدين لإشعال هذه الأزمة، لكنهما يتجاوزان هذه المحنة ويظلان أصدقاء، وأتحدى أن يكون في السيناريو شيء غير الذى ذكرته لك".

...

نكمل غداً بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.