لقاء مع رسول الله!
أحيانًا، أو نادرًا، في لحظة معينةٍ من حياتك، في ظلّ تيهٍ يلفّك من كلّ اتجاه، وبين غياهب ظلمات تعميك من كلّ جانب، تشعر بأنّك محتاج إلى لقاء شخصٍ ما، تريد أن تهرب إلى أحدٍ تجد عنده الخلاصة، والنصيحة، والقدوة، والتجربة، والراحة، تجد عنده السيرة، والمسيرة، الاتجاه، والوجهة، الطريق، والطريقة، والدينَ بمعناه الشعوريّ، والشرائعيّ.
لا تحتاج حينها أكثر من أن تقطع تذكرةً تحيلك إلى خمسة عشر قرنًا إلى الوراء، بجوار هذا الجسد الطاهر، في مسجده العظيم، مسجّى في قبره المبارك، بجوار روضته الشريفة، ملخصة لديه كلّ الأجوبة التي تبحث عنها، عن الأسئلة التي تشغلك، كلّ الراحة التي تريدها، إثر التعب الذي ينهكك، كلّ البكاء الذي يقف على حافة عينيك، بسبب القسوة التي تغشى قلبك، كلّ التجربة التي تريد زُبدتها، أمام قصر الأمد الذي يكبّل حياتك؛ هناك، على بعد أمتار قليلة منك، حيث يرقد النبيّ الكريم.
الرسول، الذي أقام الليالي في أقاصي الجبال يبحث عن الله، يطلب عونه، ومعرفته، ولو في غار ناءٍ، النبيل الذي دميت قدماه في الطريق إلى مبتغاه، بتبليغ هذا الدين الكامل إلى أمته المسكينة، التي كانت ترى عبادة حجر أقرب من عبادة إله خلق السماوات والأرض، وترى التعبّد لصنم لا يتكلّم ولا يسمع أهون من السماع لكلام بشرٍ يأمر بما أراد الله ويمنع، ولا تجد غضاضةً في أن تذهب إلى الجحيم، مقابل ألا يسملّوا لذلك الشاب العاديّ، الذي خرج من بينهم، وليس من أكابرهم، يقول للجميع: بلال من الحبشة خيرٌ من هشام من قريش، لا لشيء أكثر من أنّ ذلك عرف الله فآمن، وذلك عرف الله وأنكر، ولا شيء أكبر من ذلك.
تحتاج إلى تلك الشجاعة التي كانت لدى رسول الله محمد، في أن تقول ما يخالف هواك وقومك، ويوافق إيمانك ودربك
تحتاج إلى لقاء ذلك الإنسان الذي كانت رسالته نورًا وسط ظلمات متراكبة ومتراكمة، وكلمةً شجاعة في قوم يحمدون الجسارة إلا أن تكون مخاطبةً لعقولهم وقلوبهم بمنطق يغلبهم، وحجة تدحضهم، ولسانٍ بليغٍ يكذّب فصاحتهم، وصدقٍ يفضحهم أمام أنفسهم وأقوامهم، بأنّهم يفضّلون العمى بالهوى، على الإبصار بالحقيقة؛ تحتاج إلى تلك الشجاعة التي كانت لدى رسول الله محمد، في أن تقول ما يخالف هواك وقومك، ويوافق إيمانك ودربك.
تحتاج إلى مقابلة فؤادٍ نقيّ، وصدرٍ شفاف، لم يُرَ في الأرض أطهر منه سجية، ولا أعمق منه حكمة، ولا أبسط منه هيئة، ولا أعظم مما بين يديه رسالةً، لتعلم أن تلكم المسائل كلها لو اجتمعت فيك، فقد قابلتَ محمدًا، رسول الله، الذي تمنيت طوال عمرك، لو استطعت لقاءه خمس دقائق، فتعرف فيه ما عرفه أصحابه، وما آمن من أجله أتباعه، وما اقتنع به، ووقر في صدور ملياري مسلمٍ اليوم من أمته، فضلًا على السابقين لمن يعيشون الآن حياة الحاضر.
نحتاج إلى مقابلة إنسان ملهم في هذه الحياة، يعيننا على مشقّات الدهر من بعده، وإن كان لقاء النبي نفسه يحول بيننا وبينه الموت، وإن كان لقاء جسده تحول بيننا وبينه الأيام وجسارة القرار وتذكرة السفر، فإنّ لقاء سيرته لا يحول بيننا وبينها إلا ساعةُ تدبّر، وصدق سريرة، وإدارك بصيرة، للقاء الإنسان الذي لطالما تمنّى الجميع لقاءه.