لبن لجمال عبد الناصر

13 يناير 2017
+ الخط -

الحقيقة أن معظم الناس، في الزمن القديم، كانوا يشترون ما يلزم لهم، شتاءً، من الدكاكين، بالدين، على أن يكون التسديد صيفاً (على الموسم)... وكان صاحب الدكان إما أمياً كاملاً، أو أنه قادر على الكتابة، ولكن خطه (مفشكل)، ولا يعرف من مفردات الكتابة غير بضع كلمات تلزم له في تسجيل المبيعات الآجلة، أو أنه يكتب ويحسب على نحو جيد... وهذه الحالة الأخيرة كانت نادرة.

وكان، في بلدة إدلب صاحب دكان (دكنجي) يدعى أبا نبهان، وهو من الصنف الأول، أعني الأمي الكامل الذي لا يجيد قراءة ولا كتابة، ولكنه كان يتمتع بذاكرة خارقة، فهو يحفظ أسماء الأشخاص الذين اشتروا من عنده خلال النهار، ويتذكر الكمية التي اشتراها كل واحد منهم، من كل صنف بضاعة، بدقة، وقبل أن يُغلق الدكان، في المساء، كان ينادي أيَّ فتى من أبناء الحارة الذين يتعلمون في المدارس، ويفتح له الدفتر، ويناوله قلم (الكوبيا) ويملي عليه تفاصيل المبيعات الآجلة المذكورة، فيسجلها الولد، ويشكره أبو نبهان ويغلق الدفتر، ويمضي.

وفي ذات يوم حضر لزيارته معلم مدرسة من أصدقائه، فطلب منه أن يراجع له المبيعات المسجلة في دفتر الدين، وأن يُجري له بعض الترتيبات والتصنيفات إذا احتاج الأمر.

فتح المعلم الدفتر وشرع يقرأ ببصره، وشرعت علائم الدهشة ترتسم على وجهه.. فقال له أبو نبهان قلقاً: خير أستاذ؟ أيش مكتوب في الدفتر؟

قال المعلم: أشياء غريبة فعلاً.. مكتوب أنك بعت بعشرين قرشاً سورياً لبن بقر لجمال عبد الناصر، وبخمسة عشر قرشاً سورياً (خيطان سلوك) لعبد الله السلال، ولك في ذمة أحمد بن بيلا ربع ليرة سورية ثمن بلورة كاز نمرة أربعة، وأما المشير عبد الحكيم عامر فهو مقترض من عندك ما قيمتُه ستة فرنكات سورية ثمن نكاشات بابور! و...

أدرك أبو نبهان أن أحد الفتيان (الزعران) قد سجل له هذه الأسماء من باب (الزعرنة) والإيذاء.. فلم يَدَعْ صديقه يكمل قراءة قائمة الديون... أغلق الدفتر بهدوء، وقال له:

- إذا كان هؤلاء زبائني فأنا لازم أغلق دكاني وأترك هذه المهنة...!!

وأغلقها بالفعل.

خطيب بدلة
خطيب بدلة
قاص وسيناريست وصحفي سوري، له 22 كتاباً مطبوعاً وأعمال تلفزيونية وإذاعية عديدة؛ المشرف على مدوّنة " إمتاع ومؤانسة"... كما يعرف بنفسه: كاتب عادي، يسعى، منذ أربعين عاماً، أن يكتسب شيئاً من الأهمية. أصدر، لأجل ذلك كتباً، وألف تمثيليات تلفزيونية وإذاعية، وكتب المئات من المقالات الصحفية، دون جدوى...