كذب الممثلون ولو صدقوا!
ما كنتُ أظنّ أنّ أحدًا يفوقُ الأديبَ ذكاءً وخيالًا حتى ظهرت عبقرية الإخراج في السينما والتلفزيون، خصوصًا في سلسلة الأعمال التلفزيونية التي باتتْ في السنواتِ الأخيرة تُنافس السينما بشدّة. وفي هذا المجال، يخلقُ الكاتب الشخصيات ويرسمُ أقدارها، يجعلها تتقابل وتتمازج وتتقاطع فيصنع من ذلك حبكةً تحبسُ أنفاسك وأنت تقرأ سطورها، وتكتشف تفاصيلها، وتغوصُ في عالمها.
وبقدر ما يكونُ الكاتِبُ مبدِعًا، والنص محكَمًا، واللفظ بيانيًّا مُعْجِزًا، استغرقك الخيال جامحًا، فتلتهِم الصفحات نهِمًا ولا ترجو من غرقك النجاة. فلا تعجب إن وجدت نفسك عاشقًا وشاعرًا تُناجي حبيبةً تتمنّع وتتكرّم عليك من غرفتها بشيءٍ من السحر والدلال، بما يُبقي جذوة الحبّ تحرق ضلوعك، أو محاربًا مُثخنًا بالجراح، تخوضُ إحدى الملاحم الكبرى لتذودَ عن أهلك وقلعتك التي سلَّمَ الخونةُ (وما أكثرهم) خرائطَها وكنوزَها للعدو، وإلا فتحمل رمحًا مسنّنًا وتمتطي جوادًا غابرًا تبحث عن طواحين تقذفك بعيدًا إلى مدينةٍ عاريةٍ بمساحةِ مقبرةِ أحلامك، تُنفِّسُ عبرها تلك النزوة الجامحة وتنتقم من قسوةِ العالم الذي لا تعلم عنه شيئًا سوى من هذيانك المستمر، أنّه حفل رقص ماجن لكائناتٍ زاحفة.
ومن جهةٍ ثانية، وفي ما يتعلّقُ بعملِ المخرج، إن ترجمة الكلمات إلى صورٍ ومشاهد حيّة تلعب كلّ التفاصيل فيها دورًا مهمًّا، يحتاج إلى مخرج، قارئ فذّ وموهوب، يسخّر زوايا التصوير والإضاءة والألوان والموسيقى، ويصمّم اللقطات ويضبط طولها وإيقاعها، ويحرّك عدسة الكاميرا ليعوّض بذلك كلّه السطورَ والفقرات والجمل والكلمات وعلامات التعجب والاستفهام..
وإنّ أعظم اللقطات التي تبرز هذه العبقرية هي تلك التي تكون بلا حوار، فتقوم الصورة وحدها بعمل كلِّ شيء، ولا شيء مما يعترضك حين مشاهدته هو من قبيل المصادفة، حتى لو كان عرضيًّا أو ثانويًّا، سواء كان هذا القطارُ الذي يبدو في الخلفية يسير في اتجاهٍ مخالف، أم الصورة المعكوسة في مرآةٍ جانبية، أم حتى ذلك الكلب الأعرج الذي لا يكفّ عن النباح... ثم يأتي بعد ذلك، وربّما هو الأهم، حسن اختيار الممثلين وتوظيف مهاراتهم، وحتى قسماتهم وأصواتهم لِما يخدمُ رسالةَ المخرج وأبعادها الظاهرة والخفية.
علينا أن نبحث عمّن كتب تاريخنا، وأن نفتّـِش خارج الصندوق المحكَم، وخلف الستار عن أرشيفهم في الكواليس
ولو كنتَ قارِئًا أو مُشاهِدًا شغوفًا مثلي كما أزعم عن نفسي، فلن أستحيي أن أعترف بين يديك، مستغلًا هذه العزلة أو الخلوة بأنّي لا أنجح في كبحِ دموعي أحيانًا، خاصة في لحظةِ وداعٍ فارقة أو وفاة شخصية نجحتْ في اقتلاع مكانٍ في ذاكرتي المشحونة أو عاطفتي الشحيحة.. لأكتشف لاحقًا، وأنا مصدوم، أثناء مشاهدة لقطات من الكواليس، أنّ ذلك المشهد الذي فطر قلبي احتاج إلى أكثر من عشر محاولات سابقة ومتكرّرة، باءتْ كلّها بالفشل واضطُرّ طاقمُ العمل إلى إعادةِ تمثيله لما تخلّله من نوبةِ ضحكٍ مُعدية أصابت الممثلين.
وهذا الأمر لا يُعدّ نادرًا ولا يبعث على الاستغراب، بل الغريبُ هو ذلك المزيج من الغضب والاحتقان الذي شعرتُ به بأنّي ضحية بلهاء وقع استدراجها واستغفالها، ولا أحد منّا يريحه أن يكون عنوانًا للغباوة. ولعلك تقول الآن: تبًّا هل أهدرت هذا الوقت لقراءة مذكرات غبي آخر؟
الحقيقة أنّ الكِتاب لا يُفهم إلّا إذا قُرِئ ما بين سطوره من توصيف، كما أنّ سرّ نجاح العمل المسرحي، أو السينمائي، لا يعود إلى الممثلين مهما بلغ أداؤهم من الصدق، بل يكمن في الكواليس وعبقرية التوظيف. وأنا هنا، لم أعترف بين أيديكم إلّا لأشجعكم على الاعتراف، إذ يقول مارك توين: "خداع الناس أسهل من إقناعهم بأنّه قد تمّ خداعهم". وكما شاهدتُ أنا كواليس التصوير، علينا أن نبحث عمّن كتب تاريخنا، وأن نفتّـِش خارج الصندوق المحكَم، وخلف الستار عن أرشيفهم في الكواليس، عن الحبال التي تحرّك الأبطال.
علينا أن ننقِّب بين سطور الأحداث، عن الأفكار والأهداف والأبعاد التي تنساب من الممثلين وتمتلئ بها أقوالهم وتفيض بها أفعالهم. فكلّ ما حولنا يحرّكه فعلٌ سياسي مُنظَّم ومُحْكم بحروبه، وثوراته، وانقلاباته. وهي ليست كما يتوهّم عمومنا وجلّ نخبنا، مجرّد أحداث تلقائية تَحدث وحدها من دون إرادةٍ وغاية، ولا هي عشوائية تندلع من نفسها من دون تدبيرٍ وتخطيطٍ، ولا هي ابنة ظروفها وملابساتها ولا وليدة لحظة انفجارها، بل هي فِعلٌ، وصناعة، ومهنة، وحرفة، لها كُتّاب خبراء ومخرجون أرباب يتقنون لعبة الأمم، ولها أصول وقواعد وفنون ومهارات، تمامًا كرقعةِ الشطرنج الكبرى، ولها أسرار يدفنونها خلف الستار. هم يستغلون حاجتنا وضعفنا وجهلنا، ويضعون الخطة ويرسمون الأدوار ويرشِّحون الأبطال ويكتبون التاريخ. لكن سواء حدثت هذه المؤامرة أم تلك، يجب ألا نغفل عن الأسباب الموضوعية المعقدة المتداخلة الكامنة في بنية مجتمعنا وقوانا ووعينا الذي قد يدفعنا إلى الأعلى، أو يجعل مجتمعنا متخلّفًا، راكداً، متحلّلًا، أو فوضويًّا، معرضًا للسقوط، أو قد يدفعه إلى السقوط عندما ينجح عدوّنا، فيستغل مظاهر ضعفنا تلك ويستثمرها لمصلحته كثغراتٍ يتسلل منها ليُجهز علينا باعتبارنا تحصيل حاصلٍ لطبيعةِ الأشياء ومسارها، وما خفي كان أعظم.
في كلِّ الأحوال، إنّ ما تشاهدونه في الظاهر لا يختلف كثيرًا عن ذلك الدور الذي حدّثتكم عنه، ومهما كان ما يشدّكم نحو هؤلاء الدمى، ومهما ذرفوا من الدموع، أو رغوا وأزبدوا، أو خشعوا... فهم ممثلون وإنْ أتقنوا، وكذب الممثلون ولو صدقوا.