أزمنة بيضاء أم أزمات سوداء؟
البَياضُ في حياة الأمم لا يعني الاستسلام كما هو شائع؛ بل النقاء، ولا يكمنُ النقاء في الرخاء والسلم كما هو متداول؛ بل في الشِدّة التي تُراكم الوعيَ كما تُراكم الخسائر والمآسي. فالناس في السكينة سواء كما يُقال، حتى إذا جاءت المِحنُ تباينوا.
وعلى مرِّ التاريخ لم تتطوَّر أُمّة أو حضارة إلا بالأزمات، التي كانت في كلِّ مرّة تقودها إلى تجديد فكرها، مع تجديد عمرانها وأبنيتها، فالأزمة هي التي تُعطيها الفرصة للتجديد، ومجاوزة أخطاء الماضي؛ ولذلك بإمكاننا القول إنّ الأزمات هي الأصل الدافع في الحياة.
وما يُقال عن الفرد يُقال عن الجماعة؛ فالفرد حين ينشأ أوّل الأمر، ينشأ معزولاً عن كلّ مشكلة، ومع مرور الأيام تتَثاقل المشاكل على كاهله، فيقلّبه الألم من وجعٍ لآخر، وتسلّمه المحن من قدرٍ لآخر.. وقوة شخصيته تجعله يرى في كلّ محنة مِنْحة، وفي كلّ مشكلة فرصة، تجعله يدرك يقينًا أنّ الليالي الحالكة تزيد النجوم بريقًا، وأنّ الضربة التي لا تسقطك تقويك، وهذا ما يخلق له رصيدًا من التجربة تشكل عنده مناعةً ضدَّ ما يمكن أن يستنسخ من المشاكل؛ فلا تعوّده الشدائدُ إلا أن يكون صلبًا أشمَّ النفس، وما تزيده الضوائق إلّا إصرارًا.
وإذا ما رجعنا قليلاً إلى الجماعات والمنظّمات والدول، سلّمنا أنه مرّ عليها من الأزمات ما كان من الواجب أن يُصلِّب لديها روح المقاومة، ويستخرج من داخلها كلّ مكامن القوّة والقدرة على تَجاوز تلك الأزمات، وهنا لا بُدَّ لنا من الإشارة إلى أنَّ درجة النضج تلعب دورًا مهمًا في تلك الأزمات؛ بحيث قد يكون لبعض الجماعات من النضج ما يَجعلها تملك القدرة على التنبُّؤ بالأزمات، مِن خلال جهاز إنذار يتطوّر مع كلِّ ضخٍ تربوي وفكري وثقافي، واستجابات لتحديات العصر ومتطلّباته من غير توقف. ويقاس ذلك في مراكز صنع القرار ومراكز الدراسات والأحزاب وعند القادة وصنّاع الرأي العام.
الأزمات هي الأصل الدافع في الحياة
والملاحظ أنَّ الأزمات في عصر العولمة تنمو نموًا متسارعًا وبشكل غير طبيعي، وتتداخل فيه مؤثراتٌ متعدِّدة، بما لا يدع الفرصة لأيِّ انتباه، خاصة عندما يَسود جوٌّ من المشاحنة وتبلد الإحساس والانتصار للمصلحة على حساب المبدأ، والعاجلِ على حساب الآجل، ووقع هذا سيكون مضاعفًا على الفكر، الذي يمثل حلقة الوصل بين الواقع والمثال، وبين الممكن والمأمول. ونحن لسنا بمنأى عن ذلك كلّه، بل نحن في قلب الرحى؛ فما الذي ينقصنا أو يلزمنا كي لا نبقى نتلقى الركلات بخنوعِ الكلب السائب في الطرقات، والذي لا يملك إلا العواء. فمن يخشاه والحال هذا؟
لا شك أنّ المناعة الفكرية هي سرُّ الصمود في الأزمات، وترياق العلاج لمختلف الهزات، فبعض الأفراد مثلاً يبقى أسير مرض الكمال والأوهام، ثم تجده مع أول هزّة خفيفةٍ يتهاوى؛ فما بالك عند كمال الأزمة واشتدادها؛ لأنّ البيت الذي بناه نُسِج من خيال الروايات والأشعار والخطب الرنانة ولم يبن على قاعدةٍ فكرية أو عقيدة صلبة تجعل الوعي يولد مع الحركة، ويرتبط بها فينمو بنموها، ويتطوَّر بتطوّرها، ولا سنن في الدنيا أقوى من المدافعة الدائمة والحركة الدائبة.
المناعة الفكرية هي سرُّ الصمود في الأزمات، وترياق العلاج لمختلف الهزات
عند الأزمات يظهر دور المناعة، مثلما يظهر دورها عند مرض الجسم، والمناعة الفكرية هي تلك المناعة التي تحصّن الإنسان من الأمراض، وقد صدق مالك بن نبي حين قال إنه قبل حكاية كلِّ استعمار هناك قصة شعب قابل للاستعمار. ولذا لا نغالي حين نقول: إنَّ التسلّط والدكتاتورية هما نتاج تسلّط الجهل وقلَة الوعي، وانتشار ثقافة الخنوع والتبعية في المجتمعات، فما قيمة من يَنتدب شخصًا آخر ليفكر مكانه، ويقرّر دونه؟!
إنّ الظلم الذي نرزح تحت مبرّراته ومسوّغاته، والتبعية للآخرين الذين تفنّنت الأنظمة التربوية في التمكين لهم، خلقت عند الأمة الإسلامية أزمةَ قيادة، والأُمم عند الأزمات تبحث عمَّن يقودها نحو النصر لا عن النائحات في المآتم. ولعلَّ المرض الأكبر عند أمتنا أنّ أشعة النقد دائمًا موجّهة نحو الخارج، أمّا الداخل فهو من المقدّسات التي لا يُتحدَّث عنها.
إنَّ الفكر المنيع فكر قادر على الاستمرار، سواء في عصر العولمة الذي يتسارع فيه الضخ الثقافي، وتتعدَّد فيه الأفكار، أو في عصر الحروب الذي تكثر فيه الكروب والخسائر. فإذا لم يتغيّر الإنسان ويتطوّر فسوف يفنى؛ لذلك كان من الواجب السير في تنمية قدرات الإنسان الفكرية؛ لينسجم ومتطلّبات المرحلة، ويتحصَّن عن كلِّ اغتراب فكري، أو استلاب حضاري. أمّا الموت في الحرب فشرف، والأشدّ منه ذلك الموت الأكبر؛ أن نموت ونحن على قيد الحياة!