كأنهم "حيوانات بشرية"!

31 ديسمبر 2024
+ الخط -

حين قال مجرم الحرب المُلاحق من الجنائية الدولية ووزير الحرب الإسرائيلي السابق، يوآف غالانت، مقولته الشهيرة، في بداية حرب الإبادة على غزّة، مبرّرًا قتل الغزيين بدم بارد، قامت الدنيا ولم تقعد عندنا، حيث تبارى العرب، ببياناتهم وكتاباتهم، تحدثوا عن توحّش الفكرة، فكرة أنّ من في غزّة "حيوانات بشرية"، وتمّ نزع كلّ صفة إنسانية عنهم، وهم الأبرياء العزّل المعلمون المتعلمون، المتقدمون نفسًا وعزًّة وثقافة، والأمهر صنعة وعلما وهواية، والمسلحون منهم كذلك، ليسوا إلا بشرا رقيقي القلب، عظيمي النفس، أقوياء الشكيمة، أعزة الشهامة، أنوفهم في السماء على أعدائهم، وأجنحتهم في الأرض لأهليهم؛ فأيّ صورة للإنسان والبشرية أجمل وأرق وأهون وألين من تلك؟ وفر جهدك وإجابتك، فلن تجد.

الاحتلال، مع ذلك، تعامل مع الفلسطينيين في غزّة على هذا الأساس، بعدما جرّدهم أمام العالم من كلّ صفة، وبعدما نزع عنهم كلّ صفة إنسانية، والعالم غارق في دناءته، وخيانته، وجبنه، وحماقاته، وخطاباته النارية، وأحاديثه التي لا تعدو كونها ثرثرة للاستهلاك الإعلامي في أغلب الأحوال، فإنّ جنوده جرّدوا الفلسطيني حتى من ملابسه، حرموه من مأكله ومشربه ومسكنه، حرموه من نفسه وأحبابه وأهله وصحبه، جعلوه في مخيّلة البشر أداةً للتجارب، وميدانًا للاختبار، يجرّب فيه أسلحته الجديدة التي اشترتها له ماما أميركا من سوق الإرهاب الدولي، ويفعل بهم الأفاعيل والدنيا ترسّخ في عقلها اللاواعي صورةً مسطّحة للغزيّ كأنه رسمة، إن احترق بالنار فليس أكثر من رسمةِ إنسان محترقة!

أقوياء الشكيمة، أعزة الشهامة، أنوفهم في السماء على أعدائهم، وأجنحتهم في الأرض لأهليهم

هذا ما انتقل إلى الجمهور العربيّ مع الوقت، فجعلوا الغزيّ أسطورةً تصمد فلا تشعر، ومأساة تترمنَس فلا تؤلم، وأوجاعا للاستهلاك الأدبيّ، يقتات عليها أشباه المثقفين، الذين لا تتجاوز ثقافتهم الألم إلى الفعل، واللوم إلى الحركة، دون جرأة على الإشارة لمن قتلوا هذا الغزيّ، دون مروءة قادرة على مهاجمة الحكّام ولوم الجلاد بدلًا من الضحية، دون أن يشيروا إلى أنّ صمود الغزيّ لا ينفي آدميته، فهو الذي إن ظهر ثباته أمام الكاميرا يوم دفن أخاه بيديه، فإنه ينزف دما من عينه بعد أن تخفت الأضواء، ولولا الله لما عاش ولا آمن ساعة إضافية.

صار أهل غزّة في نظر بعض الجماهير المتفرّجة "جمادا"، وهو أعظم الناس ونعله برقابهم، برده أقل من برد الناس، وارتعاده في الخيمة مجرّد ارتعاد لاجئ في موجةٍ قارصة، وانهيار الخيمة ليس انهيار ملاذ ولا الملجأ لأخير، وإنما مجرّد قطعة بلاستيكية خطفتها الرياح، وموت أطفاله بردًا مجرّد رحمة ألا يعيشوا في هذا العالم، والحمد لله أنهم أطفال ليسوا كبارا حتى لا يكون فقدهم أكبر، بينما ستنجب المزيد منهم لاحقا.. كما صار برد الغزي الآن على البحر بينما يغرق ويموت أطفاله من الارتجاف ويغيب الدم من وجوههم لتحلّ زرقة أبدية، صورة بلا مشاعر، ورسمة سطحية دون أعماق ولا أبعاد، فتحوّل الغزيون مع الوقت في نظر الذين آزروهم من البداية ومن هاجموا غالانت حين قال مقولته الشهيرة، إلى مجرّد "حيوانات بشرية"، وهم أعظم البشر، وأجلهم قدرا، وإن كانوا أقساهم قدَرا، فمن ينظر للغزيين كما يستحقون النظر؟