قليل من الشوق
هل ما زال هناك شوق حقيقي يربطنا، نحن المغتربين الذين أمضينا سنوات من عمرنا في الغربة ـ بعيدين عن الأهل الذين كان لهم اليد الطولى في احتضاننا، ومد العون لنا، إلى أن أصبحنا كما هو عليه اليوم من اكتمال في البنية والقامة، وفي كثير من الأشياء التي أسهمت في تنشئتنا؟ أضف إلى ذلك التعطش للأصدقاء والمعارف، وزيارة الديار.. وكل ما يرتبط بذلك.
أظن أن الشوق لم يَعُد ذاك الذي كان يخفق في الأفئدة، خاصة بعد أن توافرت وسائل التواصل الاجتماعي مثل: فيسبوك وتويتر وإنستغرام وتيك توك وواتساب، وغيرها من وسائل التواصل الحديثة التي صار يعتمد عليها الإنسان اعتماداً كلياً، وصارت جزءاً لا يتجزأ من برنامج حياته اليومي، وروّجت للكثير من هذه العلاقة، ولم يعد الشوق بين الأم وابنها، أو الابن وإخوته كما كان عليه في السابق. المراحل تراخت وأزيلت السدود والمعوّقات، وأصبحت الفجوة بين هذه وتلك عادية وعادية جداً.
العلاقة بين الأسرة الواحدة، والأصدقاء أنفسهم، وما يرتبط مع غير ذلك لم يعد هو ذاك الحب الدافئ الذي ما صار يضفي على هذه العلاقة مزيجاً وخليطاً من الاشتياق يرتبط بالتواصل والمودة
إنّ العلاقة بين الأسرة الواحدة، والأصدقاء أنفسهم، وما يرتبط مع غير ذلك لم يعد هو ذاك الحب الدافئ الذي ما صار يضفي على هذه العلاقة مزيجاً وخليطاً من الاشتياق يرتبط بالتواصل والمودة، فمواقع التواصل الاجتماعي، وعلى كثرتها، قرّبت ـ وبشكل صارخ ـ من تلك العلاقة الحميمية وأفقدتها روحها ونكهتها وقيمتها ورونقها ومضمونها، وألغت كثيراً من أواصر المحبّة والشوق وإلى حدٍ بعيد.
إنّ الصوت الداخلي للإنسان لم يعد ذلك الذي يئنّ طالباً العودة للماضي الأليف، وعودة العلاقات أو الارتباط مع الأهل وهم عنوان المودة الرئيسي، فأصبح البعد عنهم عنواناً عادياً ولم يعد يشغل فكرهم، ذاك البعد عنهم يعني مرارة الغربة، ودافع الشوق إليهم، ومعرفة أخبارهم لقاء التواصل معهم.
فالتواصل عبر الموبايل سهّل وخفّف من تأجيج تلك العلاقة الحميمية، وقطع الإنسان مع كل ذلك شوطا كبيرا بتوافر الموبايل. خلال هذه الفترة الماضية لاحظت أن طابع الاشتياق صار في تراجع وعدم مبالاة، إلا ما ندر من قبل البعض من الشباب غير المتزوجين الذين ـ بالتالي ـ هم من أكثر الناس الذين تأثروا بالهجرة والاغتراب، وظلوا في حاجة إلى الحب ومناشدة الأهل، والتساؤل عنهم وعن واقع الحياة التي يعيشون.
أما بالنسبة للمتزوجين منهم فأعتقد أن هناك نسبة كبيرة منهم تناسوا إلى حد ما الشوق والسؤال عن أهلهم، والرغبة في اللقاء والتواصل معهم. في المقابل، فإن أهلهم تناسوهم وظل اهتمامهم منصباً على الاهتمام بأسرهم وأبنائهم بالإشراف على تربيتهم وتأمين متطلبات معيشتهم، وهذا ما حدّثنا عنه كثير من أولياء الأمور الذين سبق أن التقينا بهم هنا، سواء في الولايات المتحدة أو دول الاتحاد الأوروبي التي احتضنت الكثير من هؤلاء الشباب.. وهاهم اليوم يمضون جلّ يومهم مشغولين في همومهم والإحاطة بأحوالهم، وبالمحيط الذي يعيشون فيه، ولا يوجد المجال أو الفترة المخصصة التي تمكّنهم من التواصل معهم، على الرغم، كما ذكرنا، من توافر وسائل التواصل الاجتماعي وعلى كثرتها..