قطار لا يحتاج سائقاً أبداً
بعد انقطاعٍ طويل، عدت إلى مهنة سياقة القطارات، إنّها المهنة الوحيدة المناسبة لي، حيث السكة ممتدّة بشكل واضح في اتجاه الأفق دون تعرجات.
أحبّ الحقول وأعمدة الكهرباء والتلغراف، الغجر كلّهم أصدقائي، والقرويون، والشعراء الجوّالون، ورسامو الهضاب البعيدة، ومتسلقو الجبال الشاهقة، وهُواة القفز من فوق القناطر، والجنود المسرحون من الخدمة، والكلاب الهزيلة، تلك التي لا من فصيلة لها، وتتبع المقطورات الأخيرة نابحةً خلفها بألفة...
ولدت فقط لأسوق القطارات، حتى قبل أن أولد أتذكر أنّ أمنيتي كانت هذه: سائق قطارات بخارية على سكك حديد مثلجة وجبال وغابات. يمكن القول إنّي عشت في أكثر من زمن، وهذا ليس خيالاً، بل حقيقة أستطيع إثباتها لنفسي بسهولة: أغمض عيني، فأسمع هرج سوق في مدينة لا أعرفها، وأرى خُضاراً على الأرض وفاكهةً عجائبية كبيرة ودواباً وروثاً ورجلاً أعمى بثياب الأفلام التاريخية القديمة يقتحم السوق ليتسوّل بالبُزق. الباعة كلّهم يضعون على رؤوسهم برانيط، جالسون القرفصاء أمام أكوام الخضار والفواكه، بثياب مزركشة، والجابي على حصانه، وفي يده كرباج، وهناك ساحة صغيرة وقف في نهايتها رجل على صندوق، ينادي على الزبائن أن يقتربوا ليشتروا الجواري. يتقدّم رجل في يده طاووس مقلوب، ويساوم دون أن يشتري، فيما أنا تظل عيني مثبتة على ألوان الطواويس.
وحدهم الغرباء المهاجرون والنازحون والمنفيون من زمن إلى زمن عبر قطار يصدقونني، أنقلهم من عالم إلى عالم، نائماً في مقصورة القيادة، بينما الغجر يعزفون ويغنون
هذا كله خيال؟ هذا الذي أراه حين أغمض عيني؟
أرى بوضوح أدراج قلعة، أرى نتوءاتها، ألمس الحجر بيدي في الظهيرة وأجده حامياً، أشم رائحته كما يشم الواحد بسهولة رائحة رضيع. رائحة درج القلعة، وملمسه الخشن، وسخونته، ورائحته الجسدية، ومن هناك تبدو الغابات بعيدة وصغيرة، بينما يبدو السحاب كبيراً وقريباً، أراه يعلق في الأبراج، تماماً في الأبراج. ماذا أفعل في قلعة في الظهيرة؟ وفي أيّ زمن أكون حين أرى حارساً يحمل رمحاً ويرتدي بذلة حديدية، حارساً واحداً فقط لقلعة عملاقة وسط الغابات؟ هل سيصدقني إن أخبرته بأني حين أغمض عيني أرى شارعاً مكتظاً بالسياح، وهناك نافورة عملاقة، ومحلات لبيع أحذية النساء بكعوب عالية، وبورصة يتسوّل على بابها توأم آسيوي بالهارمونيكا بلباس موحّد وقصتي شعر متطابقتين، كأنّ كل واحد منهما ينظر في مرآة الآخر، وهناك باب مكتوب عليه: ماكدونالد؟
لا أحد يصدقني. صاحب الطاووس لا يصدّق ما أقوله له عن حارس القلعة، وحارس القلعة لا يصدّق ما أقوله له عن الآخرين. لذلك، فضلت الابتعاد عن كلّ ذلك، باللف والدوران حول العالم بقطار..
وحدهم الغرباء المهاجرون والنازحون والمنفيون من زمنٍ إلى زمنٍ عبر قطار يصدقونني، أنقلهم من عالمٍ إلى عالمٍ، نائماً في مقصورة القيادة، بينما الغجر يعزفون ويغنون، والشعراء والرسامون والجنود ساهمون يطلون من النوافذ، وببغائي ترقص وتضغط بقدمها على المزمور لتوقظني. لكن، ما الحاجة ليقظة سائق القطار؟ كأنّ الببغاء لا تعرف أنّ القطار يعرف طريقه وحده، كبغل المهربين، كأنّها لا تعرف أنّ القطار لا يحتاج إلى سائق.