قصة الحضارة: من جبل إيغود إلى وادي الرافدين

10 يناير 2025
+ الخط -

منذ أن رفع الإنسان رأسه نحو السماء وتساءل عن سرّ وجوده، لم يتوقف عن البحث عن بداياته، عن تلك اللحظة الأولى التي جعلته يتفرّد عن بقية الكائنات. في هذه الرحلة الطويلة، يتقاطع العلم مع الخيال، والتاريخ مع الجغرافيا. وبينما تتشابك الحقائق مع الأساطير، تنشأ صراعات حول أصول البشرية؛ صراعات ليست عسكرية ولا اقتصادية، بل صراعات تاريخية، علمية، وهُويّاتية.

من أين بدأ الإنسان؟ هذا السؤال الذي شغل العلماء والمفكّرين منذ عصور سحيقة لا يزال يحيّر البشرية. مع كلّ اكتشاف أثري جديد، يزداد الغموض بدلاً من أن يتبدّد. فهل كانت أفريقيا، بموقعها ومناخها وثرائها الطبيعي، هي مهد البشرية؟ أم أنّ الحضارة التي عرفناها بأشكالها الأوّلية ظهرت أولاً في مناطق أخرى، مثل وادي الرافدين؟

من بين المواقع التي أثارت الجدل في هذا الإطار، جبل إيغود في المغرب، حيث اكتُشفت أقدم بقايا للإنسان العاقل، وحضارة وادي الرافدين، التي وُلد فيها مفهوم المدينة والحضارة. كلا الموقعين يحملان دلالات عميقة عن أصول البشر، ويقدّمان رؤيتين متكاملتين، وربما متناقضتين، حول بدايات الإنسانية.

جبل إيغود: أقدم البشر على وجه الأرض

في عام 2017، اهتزّ العالم العلمي عندما أعلن فريق من الباحثين بقيادة جان جاك أوبلان عن اكتشاف بقايا أقدم إنسان عاقل في جبل إيغود بالمغرب. الجمجمة التي عُثر عليها تعود إلى حوالي 300.000 عام، ما يجعلها أقدم من أيّ أحفورة أخرى معروفة للإنسان العاقل.

جبل إيغود ليس مجرّد موقع أثري، بل هو نافذة إلى زمن بعيد، حيث بدأ الإنسان يخطو أولى خطواته نحو التطوّر

وفقًا لتقرير نشرته مجلة Nature، لم يكن هذا الاكتشاف مجرّد دليل على وجود الإنسان في تلك الحقبة، بل قدّم أدلة على قدرته على استخدام الأدوات الحجرية المتطوّرة. الأدوات المكتشفة بجانب البقايا البشرية تعكس ذكاءً بدائيًا، ورغبة في فهم البيئة المحيطة والسيطرة عليها.

جبل إيغود، إذن، ليس مجرّد موقع أثري، بل هو نافذة إلى زمن بعيد، حيث بدأ الإنسان يخطو أولى خطواته نحو التطوّر. ولكن، ماذا تعني هذه الخطوات في سياق البشرية ككل؟

وادي الرافدين: مهد الحضارة الإنسانية

إذا كان جبل إيغود يمثّل البداية البيولوجية للإنسان، فإنّ وادي الرافدين يمثل نقطة انطلاقه نحو الحضارة. هناك، بين نهري دجلة والفرات، ظهرت أولى المدن، مثل أور وأريدو. وُلدت الكتابة المسمارية، وشُرّعت القوانين، وبدأ الإنسان بتنظيم حياته وفق أنظمة اجتماعية وسياسية واقتصادية معقّدة.

قبل أكثر من 6000 عام، ظهرت حضارة السومريين في وادي الرافدين. كانت تلك الحضارة الأولى التي وضعت أسس ما نسميه اليوم "الحياة الحضرية". اخترع السومريون الكتابة، وطوّروا نظم ري متقدّمة، وأسّسوا قواعد القانون، مثل شريعة حمورابي التي تُعدّ من أقدم النصوص القانونية المكتوبة.

اخترع السومريون الكتابة، وطوّروا نظم ري متقدّمة، وأسّسوا قواعد القانون

في تقرير لجريدة نيويورك تايمز، وُصف وادي الرافدين بأنه "مختبر الحضارة". ليس فقط لأنّ الإنسان عاش هناك، بل لأنه بدأ هناك بالتفكير بشكل جماعي وتنظيم حياته على نطاق واسع.

التكامل بين الأصل والتطور

السؤال هنا: هل مهد البشرية هو المكان الذي وُجد فيه الإنسان لأول مرّة؟ أم هو المكان الذي بدأ فيه بناء الحضارة؟

يرى بعض العلماء أنّ الفصل بين الأصل والتطوّر ليس ممكنًا. الإنسان الذي عاش في جبل إيغود قبل 300.000 عام كان يمتلك بذور الحضارة في داخله، لكنه احتاج إلى آلاف السنين للوصول إلى مرحلة متقدّمة من التنظيم الاجتماعي والتقني، وهو ما تجسّد في وادي الرافدين.

في دراسة أجرتها الدكتورة إميلي جونسون، من جامعة أكسفورد، تقول في هذا السياق: "إننا نتحدث عن مرحلتين مختلفتين. أفريقيا، بما فيها جبل إيغود، كانت مهد الإنسان البيولوجي. لكن وادي الرافدين كان مهد الحضارة".

رؤية عربية: بين الفخر والتنافس

في العالم العربي، يُعتبر هذا النقاش مثار فخر وتنافس في آن واحد. في المغرب، أصبح جبل إيغود رمزًا للهُويّة الوطنية. يقول الكاتب المغربي محمد بن جلون في مقال له: "هذا الاكتشاف يثبت أن المغرب ليس فقط جزءًا من التاريخ البشري، بل هو نقطة انطلاقه".

أما في العراق، فإن وادي الرافدين يُعتبر مهد الحضارة الإنسانية بكلّ ما تحمله الكلمة من معنى. يقول الباحث العراقي سامر حسن: "حضارة وادي الرافدين ليست مجرّد حضارة محلية. إنها حضارة كونية تركت بصمتها على العالم بأسره".

يمثل جبل إيغود ووادي الرافدين مثالين واضحين على أهمية الجغرافيا في تشكيل التاريخ

يمثل جبل إيغود ووادي الرافدين مثالين واضحين على أهمية الجغرافيا في تشكيل التاريخ. الموقع الجغرافي لجبل إيغود جعله بيئة مناسبة لتطوّر الإنسان العاقل، بينما وفّر وادي الرافدين موارد طبيعية غنية ساعدت في بناء الحضارة.

يشير الباحثون إلى أنّ البيئة الطبيعية في وادي الرافدين لعبت دورًا حاسمًا في تطوّر الزراعة والري، وهما العاملان الأساسيان في ظهور المدن والحضارات.

مهد أم مهاد؟

بين جبل إيغود ووادي الرافدين لا يمكن اختيار "مهد" واحد للبشرية. فالأول يمثّل البداية البيولوجية، حيث ظهر الإنسان العاقل لأوّل مرّة. والثاني يمثّل البداية الحضارية، حيث تعلّم الإنسان كيف ينظّم حياته ويبني مجتمعات متطوّرة.

ربما تكون الحقيقة أنّ البشرية لم يكن لها مهد واحد، بل مهاد متعدّدة، كلّ منها قدّم شيئًا فريدًا لقِصّة الإنسان. جبل إيغود قدّم الإنسان، ووادي الرافدين قدّم الحضارة.

في النهاية، السؤال عن مهد البشرية ليس مجرّد سؤال علمي، بل هو سؤال عن هُويّتنا باعتبارنا بشرًا. أينما كان الأصل، فإنّ ما يجمعنا أكثر ممّا يفرقنا، وقِصّة الإنسان هي قِصّة واحدة، تتشابك فيها الخيوط لتنسج حكاية عظيمة.

إيهاب العبيدي
إيهاب العبيدي
صحافي عراقي، حاصل على ماجستير في الأدب الإنكليزي.