البرازيل وفلسطين.. دعم سياسي وجهل شعبي

26 يونيو 2024
+ الخط -

في أعماقِ الأحياء الفقيرة النابضة بالحياة في ساو باولو وريو دي جانيرو، وفي الساحات المليئة بالحشود في برازيليا، ينبضُ قلب البرازيل بتعاطفٍ ودعمٍ حكومي قوي للقضيّة الفلسطينية. وعلى الرغم من البعدِ الجغرافي الشاسع، إلا أنّ هذا الدعم يمتدّ عبر عقودٍ من الزمن، ليعكسَ تعقيداتٍ سياسيةٍ وثقافيةٍ وتاريخيةٍ عميقة. والبرازيل، بفضل تأثيرها الدبلوماسي في الأمم المتحدة، تؤدّي دوراً بارزاً على الساحة الدولية. ومن بين القضايا التي تحتل مكانة خاصة في السياسة الخارجية للبرازيل، تبرز القضيّة الفلسطينية موضوعاً ذا أهمية كبيرة. ورغم هذا الدعم، يظهر التباين واضحاً بينه وبين المواقف الشعبية، حيث إن الشارع البرازيلي غالباً ما يكون بعيداً عن هذه القضيّة، أو يميلُ الكثير منه إلى رؤيةِ الفلسطينيين بطريقةٍ نمطيّةٍ سلبيّة.

هذا التباين يثيرُ أسئلةً محوريّةً لفهمِ الديناميكيّات المعقدة التي تحكم العلاقة بين البرازيل وفلسطين، وأسباب الفجوة بين السياسة الرسمية والمواقف الشعبية، والعوامل التي تشكّل هذه الصورة السلبية عن الفلسطينيين.

الجذور التاريخية والسياسية 

يعودُ تاريخ الدعم البرازيلي للقضيّة الفلسطينية إلى عقودٍ طويلة، متجذراً في تقاليدِ سياستها الخارجية التي تؤكّد العدالة الدوليّة وحق تقرير المصير. ومنذ ستينيات القرن الماضي، اتخذت البرازيل موقفاً ثابتاً في دعم الفلسطينيين، وموقفاً متوازناً في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، داعية إلى حلٍّ سلمي يضمن حقوق كلا الطرفين.

في عام 1975، صوّتت البرازيل لمصلحةِ قرار الجمعية العامة للأمم المتحدة رقم 3379، الذي اعتبر الصهيونية شكلاً من أشكال العنصرية. وعلى الرغم من إلغاء هذا القرار لاحقاً، فإنّه أظهر استعداد البرازيل لاتخاذ مواقف جريئة في دعم القضيّة الفلسطينية. وفي عام 2010، اعترفت رسمياً بدولة فلسطين ضمن حدود 1967، وهو موقف يعبّر عن التزامها بدعم الحقوق على الساحة الدولية.

منذ ستينيات القرن الماضي، اتخذت البرازيل موقفاً ثابتاً في دعم الفلسطينيين، وموقفاً متوازناً في الصراع الإسرائيلي الفلسطيني

وفي سعيها لتعزيزِ مكانتها لاعباً دبلوماسياً مُحايداً ومستقلاً، قادراً على لعبِ دور الوسيط في النزاعاتِ الدولية، تُواصل البرازيل عملها الدؤوب داخل الأمم المتحدة لدعم القرارات الرامية إلى وقف إطلاق النار وتحقيق حل الدولتين. هذا الموقف ليس مجرّد تعبير عن التضامن، بل يأتي جزءا من استراتيجية أوسع لتعزيز السلام والأمن الدوليين. 

تأثير التيارات السياسية في الموقف الحكومي

يتأثّر الموقف البرازيلي من القضيّة الفلسطينية إلى حدٍّ بعيدٍ بالتيارات السياسية والأيديولوجية السائدة في البلاد. فالأحزاب اليسارية، وعلى رأسها حزب العمال، تميل إلى تبنّي مواقف أكثر تعاطفاً مع القضيّة الفلسطينية، مستندةً إلى مبادئ العدالة الاجتماعية ومناهضة الاستعمار. تحت قيادات مثل الرئيسين لويس إيناسيو لولا دا سيلفا وديلما روسيف، أبدت البرازيل مواقف واضحة وصريحة في دعمِ حقوق الفلسطينيين وإدانة الاحتلال الإسرائيلي في مناسباتٍ متعدّدة. هذا التوجّه اليساري يرى في النضال الفلسطيني صدى لنضالاتِ الشعوب المستضعفة حول العالم، بما في ذلك نضالات الشعوب الأصلية والأقليات في البرازيل نفسها. 

ومع ذلك، فإنّ هذا الموقف ليس موحّداً عبر الطيف السياسي البرازيلي. فالأحزاب اليمينية والمحافظة، غالباً ما تتبنى مواقف أكثر تعاطفاً مع إسرائيل، مدفوعةً بعوامل دينية وأيديولوجية. على سبيل المثال، خلال فترة حكم الرئيس جايير بولسونارو (2019-2022)، شهدت البرازيل تحوّلاً في سياستها تجاه إسرائيل، مع وعودٍ بنقل السفارة البرازيلية إلى القدس، وهو ما لم يتحقّق في نهايةِ الأمر.

هذا التباين في المواقف السياسية يعكسُ الانقسامات العميقة في المجتمع البرازيلي حول القضايا الدولية، وخاصة تلك المتعلّقة بالشرق الأوسط. ومع ذلك، فإنّ الموقف الرسمي للدولة البرازيلية ظلّ، بشكلٍ عام، داعماً للحقوق الفلسطينية، مع الحفاظِ على علاقاتٍ دبلوماسيةٍ مع إسرائيل.

تحت قيادات مثل الرئيسين لويس إيناسيو لولا دا سيلفا وديلما روسيف، أبدت البرازيل مواقف واضحة وصريحة في دعم حقوق الفلسطينيين وإدانة الاحتلال الإسرائيلي

ويتحوّل التأييد للقضيّة الفلسطينية في هذا السياق إلى جزءٍ لا يتجزّأ من رؤيةٍ أوسع للعدالة تمتدّ لتشمل جميع أنحاء العالم. وتتميّز التظاهرات التي تنظّم دعماً لفلسطين بمشاركةٍ لا بأس بها من عددٍ من قطاعاتِ المجتمع، بما في ذلك منظمات حقوق الإنسان والنقابات العمالية. بهذه الطريقة، يجسّد الدعم للقضيّة الفلسطينية في البرازيل التزاماً عميقاً بمبادئ العدالة والمساواة التي تشكّل جوهر الأيديولوجية اليسارية. وبالتالي، فإنّ دعم القضيّة الفلسطينية يصبح جزءاً من رؤيةٍ أوسع للعدالة العالمية والتضامن بين شعوب الجنوب العالمي.

عوامل تشكّل موقف الرأي العام 

يُعدّ الإعلام أحد أهم العوامل التي تشكّل وجهات النظر العامة لدى الشعوب. وعلى الرغم من الموقف الرسمي الداعم للقضيّة الفلسطينية، فإنّ الرأي العام البرازيلي يُظهر تبايناً ملحوظاً في هذا الصدد. فالعديد من البرازيليين، خاصة في المناطق الحضرية الكبرى، يبدون اهتماماً محدوداً بالقضايا الدولية، بما في ذلك الصراع الإسرائيلي الفلسطيني، حيث يهيمن الإعلام الغربي بشكلٍ كبير على المشهدِ الإعلامي البرازيلي، وتعتمد العديد من القنوات والصحف على مصادر غربية في تغطيتها الأحداث العالمية. وسائل الإعلام الغربية غالباً ما تعرض الصراع من منظورٍ يتماشى مع السياسات الغربية، ممّا يؤدّي إلى تحيّز في التغطية الإعلامية، وتقليص فهم الجمهور للموقف الكامل. حيث تميلُ الوسائل الإعلامية إلى تصوير إسرائيل حليفاً مهماً في الشرق الأوسط مع التركيز على التهديداتِ الأمنية التي تواجهها، بينما تُعرض الروايات الفلسطينية غالباً بشكل أقل تعاطفاً، وهو ما يؤدّي إلى تصوّراتٍ عامة غير متوازنة.

يتحوّل التأييد للقضيّة الفلسطينية في هذا السياق إلى جزءٍ لا يتجزّأ من رؤيةٍ أوسع للعدالة تمتدّ لتشمل جميع أنحاء العالم

تستخدم وسائل الإعلام تقنياتٍ معيّنة مثل التأطير والانتقاء في عرضِ الأخبار لتشكيل الرأي العام. مؤخراً جرى التركيز بشكلٍ كبير على الهجمات الصاروخية من قطاع غزّة، بينما جرى تجاهل، وإلى حدٍّ كبير، تأثير الحصار والاحتلال الإسرائيلي على الحياة اليوميّة للفلسطينيين. تاريخياً، تتأثّر التغطيّة الإعلامية أيضاً بالعلاقات السياسية والاقتصادية بين الدول الغربية وإسرائيل، مما يجعل النقد الإعلامي لهذه العلاقات محدوداً أو غائباً في كثير من الأحيان. لذا، من الضروري أن يسعى المشاهدون أو المتابعون للمعلومات إلى استكشافِ مصادر متعدّدة ومتنوّعة للحصول على صورةٍ أكثر شمولاً وتوازناً حول الصراع، بعيداً عن التأثيراتِ الأحادية للوسائل الإعلامية الغربية. هذا الانفصال بين السياسة الرسمية والرأي العام يتأثّر إلى حدٍّ ما بالنقص في التغطيّة الإعلامية الشاملة والمتوازنة للقضيّة الفلسطينية في وسائل الإعلام البرازيلية الرئيسة.

من العوامل الأخرى التي تساهم في تشكيل الرأي العام هي نقص الوعي والمعرفة بالقضيّة الفلسطينية. فالتعليم في البرازيل لا يركز بشكلٍ كاف على تاريخ وجغرافية الشرق الأوسط، مما يترك فجوةً كبيرةً في فهم البرازيليين للواقع الفلسطيني. والنظام التعليمي في البرازيل يركّز بشكلٍ كبير على القضايا المحليّة والإقليمية، مع إيلاء القليل من الاهتمام للقضايا الدولية المعقدة مثل النزاع الإسرائيلي الفلسطيني. هذا النقص في التعليم يعزّز الجهل بالتفاصيل الدقيقة والتاريخية للنزاع.

التأثير الديني

تلعبُ الأيديولوجية الدينية دوراً مهماً في تشكيل مواقف البرازيليين تجاه إسرائيل وفلسطين. فالجماعات الإنجيلية، التي تتمتّع بنفوذٍ كبير في البرازيل، تدعمُ إسرائيل لأسبابٍ دينيةٍ تتعلّق بالتفسيرات الكتابية والنبوءات التوراتية. حيث يؤمن العديد من المسيحيين الإنجيليين بأنّ دعم إسرائيل هو واجب ديني، مبني على اعتقادهم بأنّ عودة اليهود إلى أرض الميعاد هي تحقيق لنبوءاتٍ توراتية. هذا الاعتقاد يدفعهم إلى دعم السياساتِ الإسرائيلية دون النظر إلى الظروف الإنسانية للفلسطينيين.

كما أنّ اللوبيات المؤيّدة لإسرائيل توجّه الانتقادات للحكومة والحزب الحاكم، حيث ترى في دعم فلسطين تحيّزاً غير مبرّر. بالإضافة إلى ذلك، التحديات الاقتصادية والسياسية الداخلية أحياناً تؤثّر بقدرةِ الدولة على دعم القضايا الدولية بشكلٍ فعال. بعض السياسيين والمفكرين في البرازيل يعتبرون أنّ التركيز على القضايا الدولية قد يأتي على حساب القضايا المحلية المُلحة. هذا الرأي يعكس وجهة نظر ترى أنّ الأولويات الوطنية يجب أن تكون في المقدمة. ومع ذلك، يتجادل الداعمون للقضية الفلسطينية بأنّ دعم العدالة وحقوق الإنسان لا يتعارض مع معالجة التحديّات المحليّة، بل هو جزء من رؤيةٍ شاملةٍ للعالم.

العوامل الاقتصادية والاستراتيجية

لا يمكن فهم الموقف البرازيلي من القضية الفلسطينية دون النظر إلى العوامل الاقتصادية والاستراتيجية. فالبرازيل، كقوةٍ اقتصاديةٍ صاعدة، تسعى إلى توسيع نفوذها العالمي وتنويع شراكاتها الاقتصادية. في هذا السياق، يمكن النظر إلى دعمها القضية الفلسطينية باعتبار ذلك جزءاً من استراتيجيةٍ أوسع لتعزيز العلاقات مع العالم العربي والإسلامي.

العلاقات التجارية بين البرازيل والدول العربية شهدت نمواً ملحوظاً في العقود الأخيرة

فالعلاقات التجارية بين البرازيل والدول العربية شهدت نمواً ملحوظاً في العقود الأخيرة. هذا النمو في العلاقات التجارية يوفّر حافزاً إضافياً للبرازيل لاتخاذ مواقف داعمة للقضية الفلسطينية، التي تحظى بأهميةٍ كبيرةٍ في العالم العربي.

تُواجه البرازيل تحدّيات اقتصادية وسياسية داخلية تجعل من الصعب تحقيق توافق داخلي حول السياسة الخارجية. فالأزمات الاقتصادية المتكرّرة، الفساد، وعدم الاستقرار السياسي يستهلك الكثير من طاقة الحكومة والمجتمع، ممّا يحدّ من الاهتمام بالقضايا الدولية. مع ذلك، تستمر البرازيل في تقديمِ الدعم الدبلوماسي والإنساني للفلسطينيين، على الرغم من هذه التحديات الداخلية. ويظلّ هذا الدعم إلى حدٍّ ما غير منسجم مع الرأي العام البرازيلي الذي يتأثّر بشكلٍ كبيرٍ بالتغطية الإعلامية الغربية والمعتقدات الدينية. هذا التباين يسلّط الضوء على التحديّات التي تواجهها البرازيل في تحقيق توازن بين سياساتها الخارجية ومواقف شعبها.

لفهم أعمق لهذه القضيّة، يجب تعزيز التعليم حول تاريخ وجغرافية الشرق الأوسط، وتوفير تغطية إعلامية أكثر توازناً للنزاع الإسرائيلي الفلسطيني. كما يجب أن يتم فتح حوار أوسع بين الحكومة والشعب حول هذه القضايا لتعزيز الفهم المشترك والتضامن مع القضايا الإنسانية العالمية.

البرازيل، تلك الدولة الشاسعة التي تقع في قلب أميركا اللاتينية، تتميّز بتنوعها الكبير جغرافياً وثقافياً. ومن الشمال إلى الجنوب، يمكن للمرء أن يشعر وكأنه في دولتين مختلفتين تماماً، وذلك بسبب تنوّع العادات، الطعام، الثقافة، الطقس. ورغم هذا التنوع، تبقى بلداً يعاني من الفقر والبعد الجغرافي عن العالم الخارجي، ما يجعل السفر للخارج مجرّد أحلام بعيدة عن الواقع بالنسبة لكثير من سكانها. البرازيل ليست مجرّد دولة تعيش في عزلةٍ عن القضايا الدولية، بل تعيش تناقضاً مستمراً بين مشكلاتها الداخلية والانخراط في الشؤون الخارجية. فالنقص في المعرفة بالعلاقات الدولية يجعل غالبية السكان غير مهتمين بالقضايا العالمية. وهذا التباعد بين الداخل والخارج يجعل الحديث عن البرازيل أمراً معقداً، حيث تتقدّم المشاكل الداخلية دائماً على أيّة قضايا دولية أخرى، لتبقى تعيش بين طموحات سكانها وتحديّاتها الجغرافية والثقافية.

إيهاب العبيدي
إيهاب العبيدي
صحافي عراقي، حاصل على ماجستير في الأدب الإنكليزي.