في هجاء نوافير ومديح أخرى
لا أجد في النافورات الكبيرة أمام الفنادق الكبرى أيّ جمالية تُذكر، ولا أيّ معنى، خصوصاً تلك التي تمتدّ عبر صفٍ طويل، حيث يصعد الماء فجأة مشكّلاً جداراً رقيقاً، أبيض بلون الرغوة، طوله عشرة أمتار أو أكثر، وارتفاعه متران تقريباً، ثمّ ينزل الجدار (فجأة أيضاً)، حتى يختفي الماء وتختفي النافورات التي تكون مواسيرها لصيقة بالأرض، في لعبة تَخفّ عبيطة جداً ومكشوفة.
بل ربما تبدأ تلك النوافير بتشكيل عروض فيزيائية مختلفة للماء الصاعد والنازل، مرّة من هنا ومرّة من هناك، مع إضاءاتٍ غريبة كالبنفسجي المشع والأخضر الشفاف الساطع والأزرق الإلكتروني المبالغ في زرقته إلى حدّ الاضطراب البصري والشعور بعمى الألوان وبألوان العمى.
محاولات فاشلة وسخيفة لتقليد الشلالات، رتابة منقطعة النظير، عروض فرجوية محدودة للغاية، ينقصها التوليد المتتالي للإبداع والتداعي المستمر للخيال. عروض بليدة للغاية، رغم طابعها الحديث التكعيبي أو التجهيزي ما بعد الحداثي، الفضائي، الزائف.
يلتقط العشاق القادمون من دول بعيدة غير مشهورة، أو من القرية، صوراً تذكارية شائعة أمامها. عشاق بروليتاريون مفلسون، لا يحجزون غرفاً في ذلك الفندق غالباً، مركزين جيداً قبل الضغط على زر الكاميرا بغية إمساك جدار الماء في الإطار قبل اختفائه. في الغالب يضغطون وجدار الماء مرتفع، هذا جيّد، لكن الثواني التي تستغرقها الكاميرا المتهالكة في معالجة المعلومات كفيلة دائماً بالتقاط الصورة دون جدار ماء وبحرجٍ كبير.
نافوات الفنادق عبارة عن عروض بليدة للغاية، رغم طابعها الحديث التكعيبي أو التجهيزي ما بعد الحداثي الفضائي الزائف
"لقد اختفى الماء من الصورة" يقول العاشق لعشيقته. تجيبه: "نعم لقد اختفى، كان هنا لكنه اختفى". يجيبها: "نعم لقد اختفى فعلاً". حسناً، يجربان الأمر أكثر من عشر مرات. أخيراً يمسكان في الصورة جداراً مضبّباً جداً، ويجب أن يشرحا لاحقاً، وباستمرار، لمن يراها أنه ماء وليس شيئاً آخر. ثمّ، حين يمسك يدها وينسحبان، يصعد جدار الماء عالياً وبوضوح، لكن بعد فوات الأوان، بعد فوات الأوان بكثير، بعد فوات الأوان إلى الأبد، دون أي معنى رومانسي يذكر أو حتى غير رومانسي، بعد أن أعادا الكاميرا إلى الحقيبة.
جدار مائي متكرّر إلى ما لا نهاية، ثمّ إلى ما لا نهاية، ثمّ إلى ما لا نهاية برتابة مفرطة، إنه التجسيد الأمثل للسأم الفلسفي العدمي الخالص وللاجدوى المتقنة للوجود، خصوصاً حين يكون الفندق الذي خلفه من فئة خمس نجوم ذهبية، فسيحاً، تُحيط به مساحة خضراء شاسعة، عشبها كثيف مجزوز بدقة رياضية شديدة كملاعب التنس، ملحق به كراج معزول، ومليء بالسيارات الفارهة، ثمّ حارسا أمن صامتان، عند الباب الزجاجي الكبير الدوار، يرتديان نفس الثياب الرسمية الشبيهة بثياب شرطة دولة أخرى متقدمة، يبدوان متشابهين من بعيد إلى حدّ التطابق كما لو أنهما خرجا تواً من مصنع حربي للروبوتات.
واجهة الفندق ذي الطوابق الكثيرة زجاجية، ينعكس فيها هرج ومرج المدينة بشوارعها البعيدة المشوّهة. مدينة، سياراتها قديمة الطراز، عماراتها العتيقة متفاوتة الطول، "أنتيناتها" الصدئة، وكلب ضال يمرّ هارباً (دون شك) من ركلات الأطفال الترجيحية في ظهيرة قائظة. أمّا واجهة الفندق، فهي ممسوحة جيداً بأيدي جيش من عمال النظافة لتعكس كلّ خراب المدينة بوضوح، ثمّ رايات بألوان مختلفة تُرفرف فوق أعلى نقطة من البناية. وفود تدخل ووفود تخرج، سياح (درجة أولى) من كلّ البلدان، الخدم يدخلون ويخرجون من الباب الصغير الخلفي، الشمبانيا تفتح في الغرف العالية وفي "السويتات" الفارهة احتفالاً بإبرام الصفقات وتوقيع المعاهدات والشراكات والمؤامرات، عارضات الأزياء يخرجن من غرف كي يدخلن غرفاً أخرى مقهقهات بدلع، الطباخون بدناء وقد أصبحت بشراتهم مع الوقت شبيهة بلون البطاطا المسلوقة بعد تقشيرها، الندّل (أيضا) ببذلات متشابهة دافعين عربات الأكل والشراب الفضية الصغيرة، يعدّلون ربطات العنق، التي لها شكل فراشات، كلّ مرّة أمام مرايا المصاعد.. كلّ هذا وماء النوافير في الخارج لا يزال يصعد وينزل، يصعد وينزل، يصعد وينزل، ينزل ويصعد.. دون أدنى ذكاء أو ابتكار.
فكرة هندسية شديدة الخمول والتماطل، رغم كلّ البهرجة التي تحيط بها، بحيث لا يمنحها ذلك الطابعَ من الفخامة سوى الأوتيل، عوض أن تمنحه هي له
فكرة هندسية شديدة الخمول والتماطل، رغم كلّ البهرجة التي تحيط بها، بحيث لا يمنحها ذلك الطابعَ من الفخامة سوى الأوتيل، عوض أن تمنحه هي له.
لا أستطيع تخيّلها في معزل عنه، حيث يصعد الماء وينزل إلى الأبد في لعبة غميضة غير مسلية، لن يلعبها أحد، ولن يهتم أحد بالتقاط صورة أمامها، ولن تدهش أحداً أبداً، بل لن تدهش حتى سلحفاة فلسفية كسولة. ستدخل السلحفاة عنقها داخل قوقعتها، تغمض عينيها، وتنام. يصعد الماء بغتة ثم ينزل بغتة، ثم ماذا بعد ذلك؟ لا شيء طبعاً، على السلحفاة أن تستعد من جديد، هيّا: سيتكرّر المشهد.
ورغم أنّ ذلك الماء الذي يصعد ليتدفق فوق الأرضية، رغم أنه هو نفسه الذي يعود عبر المواسير نفسها التي يخرج منها إلى داخل هذه اللعبة الصندوقية المثيرة للأعصاب كنصٍ تجريبي تجريدي طويلٍ وممل، ليضخ من جديد، مرتفعاً بعبقرية غير منقطعة النظير إلى أعلى، قبل أن ينزل من جديد إلى أسفل سافلين، رغم أنّه هو نفسه، إلا أنّه يمنحك إحساساً واحداً أكيداً هو: تبذير الماء من أجل لا شيء.
يمكننا طبعاً، من أجل كتابة نص بديل أقل توتراً، الاستغناء عن هذه النوافير بإغلاق تلك الثقوب بالخرسانة دون أيّ شعور بالندم أو بالخسارة، فالأمر لن يشبه أبداً تدمير تمثال أو مبنى أثري أو لوحة. ثمّ تعويض كلّ ذلك بنافورة تقليدية صغيرة واحدة فقط، نافورة زليجية بفسيفساء ملونة، شبيهة بنوافير باحات بيوت المدن العتيقة، نافورة هادئة، لا تدّعي أيّ ألعاب سحرية تجريبية، ولا أيّ تسلية أو غميضة. نافورة غير عدائية بالمرّة، تألفها العصافير والقطط ووريقات الشجر وشظايا الورد، تُهدّئ رقرقتها الخافتة أعصاب المارة، أعصاب الأحياء، وأعصاب الأموات. نافورة يظل جريان الماء مستمراً عبرها إلى ما لا نهاية، دون أيّ انقطاع، ببلادة أكبر، وتكرار أكبر، وغباء أكبر لا يدّعي أيّ تذاكٍ، إلى حدّ أنّ تلك البلادة والتكرار والغباء... تنتفي كلّها، كما في الأعمال الأدبية الكلاسيكية الكبرى، لتصير تلك النافورة التي صمدت قروناً، وقد صنعها القِدم بيديه الخزافتين، وصقلها الزمن باسترخائه الطويل وتثاؤبه، تصبح قطعة من الطبيعة، كالساقية تماماً، كساقية نقلت كما هي من وسط الهضاب والحقول لتثبّت وسط الباحات والساحات العامة، تبعث الراحة والهدوء والسكينة في النفس، سواء في بيت، أو في قفر، في قصر أو في جبانة، أو حتى أمام فندق حديث تُوّتر هندسته "الكوسموسية" العدائية أعصاب العجزة، والسلاحف، والشعراء..