في معرض التحدي والإذلال

03 فبراير 2021
+ الخط -

قل لي بالله عليك: ماذا تفعل لو جاء إلى بلادنا أجنبي غير مسلم فتنه واستهواه ما قرأه عن حرية الفكر في الإسلام التي لا تضاهيها حرية فكر في أي دين أو اعتقاد، ثم جاء إلينا وشاهد وعاش معنا هوجات التكفير والتفسيق والاتهام بمحاربة الإسلام التي تندلع بيننا كل عشية وضحاها بسبب رأي قاله هذا أو مقال كتبه ذلك. ماذا سنقول لو سألنا ذلك الرجل مندهشاً وراغباً في الفهم: "إذا كنتم لا تبيحون أن يقول الإنسان رأياً خاطئاً أو مستفزاً أو مخالفاً للإجماع ففيم الحرية إذن في دينكم؟"، وماذا سنقول لو كان الرجل مطلعاً على تاريخنا وسألنا فاضحاً لنا: "في أيام مجدكم التليد الغابر كنتم تتناقشون في أكثر المسائل الشائكة مثل ذات الله وصفاته وكان بينكم المرجئة والمجسدة والمشبهة والمعتزلة وعشرات المذاهب والفرق التي ظلت فترة طويلة تتصارع فيما بينها صراعا فكريا لم يشهد التاريخ مثيلا لرقيه فما بالكم اليوم وأنتم موطأ كل داعس تظنون أن كلا منكم يمتلك الحقيقة المطلقة".

ماذا سنقول له لو سألنا: هل التكفير في دينكم سهل هكذا لكي ترموا به بعضكم عمال على بطال؟ بالطبع لو ذهب الرجل إلى كتب العلماء الثقات في ديننا لوجد أن الرسول عليه الصلاة والسلام يجعل من الاتهام بالكفر جريمة يعاقب عليها الشرع، ففى الحديث الصحيح "من قال لأخيه يا كافر فقد كفر" وفى الحديث الصحيح الآخر "أيما رجل قال لأخيه يا كافر فقد باء بها أحدهما... "، وعندما قتل سيدنا أسامة بن زيد رجلاً بسهم فقتله قال له نبينا الكريم: "هلا فحصت قلبه؟ " وفى رواية "هلا شققت عن قلبه؟" ليعيش أسامة بن زيد بقية عمره نادماً على تسرعه.

قل لي بالله عليك هل يلتزم أحد من هواة التكفير في بلادنا بأي من هذه القواعد الشرعية؟

وحتى إذا صدر عن أحد ما يستوجب التساؤل عن صدق إيمانه تأتي قاعدة شرعية فى كتب العقائد والفقه لتنظم الأمر فتقول بالنص: "إذا صدر قول من قائل يحتمل الكفر من مئة وجه ويحتمل الإيمان من وجه واحد حُمِل على الإيمان ولا يجوز حمله على الكفر"، هذه القاعدة الشرعية يؤكدها العالم الجليل محمود شلتوت فى كتابه (الإسلام عقيدة وشريعة) عندما يتعرض لموجبات الاتهام بالكفر فيضع شروطاً عسيرة لإلصاق تلك التهمة بأحد، ثم يقرر أنها حتى لو الصقت بأحد فإنها لا تستوجب معاقبته وحسابه لأن حسابه وعقابه موكل لله عز وجل. في السياق نفسه يقول الفقيه ابن عابدين في سفره الجليل (الحاشية): "لا ينبغى أن يُكَفّر مسلم أمكن حمل كلامه على محمل حسن أو كان فى كفره خلاف ولو كان رواية ضعيفة"، وفي (تحفة الفقهاء) للأحوذي ترد آراء لفقهاء الحنفية والمالكية بأن من خالف هذه القاعدة يتم تفسيقه وتعزيره – أي معاقبته بعقوبة يقدرها قاضى الشرع- بينما يقرر فقهاء الشافعية أن من كفر مسلماً ولو لذنبه فقد كفر.

قل لي بالله عليك هل يلتزم أحد من هواة التكفير في بلادنا بأى من هذه القواعد الشرعية؟ ولماذا يحرصون دائما على مخالفتها وهم يعلمونها كما هو مفترض فيمن يدعون العلم بالشرع وتعاليمه؟ إلا إذا كان فى النفوس أغراض وأهواء لا علاقة لها بالإسلام وسماحته، لماذا لا نسمع هذا الكلام يقال من كثير من شيوخ السلفية وأنصارها بقدر مانسمع عن مسارعتهم للتكفير والإخراج من الملة والدعاء على أناس يختلفون معهم في الرأي كأنهم كفار مرقوا من الدين. 
الأهم من ذلك كيف يجرؤ أحد على أن يتهم أحدا بالكفر أو الفسوق أو الخروج عن الملة في ظرف ساعات يقوم فيها بتطيير إيميل على شبكة الإنترنت بينما الإمام مالك يقول وقد عرضت عليه مسألة فقهية "اليوم لى عشرون سنة وأنا أفكر فى هذه المسألة"، ويُروى عن الإمام أحمد بن حنبل قوله "ربما مكثت فى المسألة سنين قبل أن اعتقد فيها شيئا "، ويروى عن الشافعى أنه ظل ثلاثة أيام بلياليها سهران مكدودا يفكر فى مسألة فقهية، هذا والأمر متعلق بمسائل فقهية فما بالك بإصدار احكام بتكفير أناس وتفسيقهم، يقول الفقيه أبو حصين معلقاً على المتسرعين فى إصدار الأحكام "وإن احدهم ليفتى فى المسألة، لو وردت لعمر بن الخطاب لجمع لها أهل بدر"، انظر للمزيد من الأمثلة كتاب (القرآن والسلطان) للأستاذ فهمى هويدى.

إذا كنت قد نسيت الخواجة الزائر الذي حدثتك عنه في البداية دعني أذكرك به وأنبهك إلى إنه لو سألك بأي حق يجرؤ بشر على أن ينسب حكمه ورأيه إلى الله عزوجل دون أن يقرر حقيقة أن آراءه ليست سوى آراء بشرية تجتهد فى تفسير الدين وهو اجتهاد يمكن أن يكون صحيحا أو خاطئا؟ فعليك أن تحكي له عن نبينا الكريم الذى جاء فى الحديث الصحيح أنه نهى الصحابى بريدة الذى أمره على سرية أن يقول للأعداء عندما يحاصرهم أنه ينفذ عليهم حكم الله ، وقال له صلى الله عليه وسلم: "فإنك لا تدرى أتصيب حكم الله أم لا، ولكن أنزلهم على حكمك وحكم أصحابك"، وأن سيدنا عمر بن الخطاب كان كاتبه يكتب بين يديه مرة فكتب: "هذا ما أرى الله أمير المؤمنين عمر"، فنهره وقال له: "لا تقل هكذا ولكن قل : هذا ما رأى أمير المؤمنين عمر بن الخطاب (انظر إعلام الموقعين عن رب العالمين الجزء الثانى للعلامة ابن قيم الجوزية).

وإذا كان رسول الله صلى الله عليه وسلم قد نصح ذلك الصحابي بعدم نسب حكمه إلى الله تعالى، وهو يقاتل من ثبتت عداوتهم للإسلام وحربهم عليه، فما بالنا بمن يصدر أحكام التكفير وينسبها إلى الله وهي تتعلق بمسلمين مثله يشهدون أن لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله، أو بأناس يحملون آراء دينية وعقائدية مخالفة لا يرغبون في أن يعلنوا بها حرباً على أحد، بل يرغبون في الحوار حولها أو في أن يُتكروا وشأنهم دون أن يصيبهم أذى بسبب ما يعتقدونه، فلا يقتصر الأمر على التسرع في تكفيرهم، بل يتجاوزه إلى التعصب ضدهم والتعدي عليهم والتحقير من شأنهم، مع إن ذلك كله ليس من منهج الإسلام في شيء، طبقاً لما يقرره الإمام الشاطبي في كتابه (الاعتصام) وهو يحذر من خطورة التعصب في الرأي ضد من نعتقد بخطأ رأيه وضلاله، فينقل عن سلفه الشيخ أبي حامد الغزالي قوله: "أكثر الجهالات إنما رسخت فى قلوب اعوام بتعصب جماعة من جهل أهل الحق، أظهروا الحق فى معرض التحدى والإذلال ونظروا إلى ضعفاء الخصوم بعين التحقير والازدراء فثارت من بواطنهم دواعى المعاندة والمخالفة، ورسخت فى قلوبهم الاعتقادات الباطلة، وتعذر على العلماء المتلطفين محوها مع ظهور فسادها" ويعلق الشاطبي على هذه الكلمات قائلاً "هذا هو الحق الذى تشهد له العوائد الجارية فالواجب تسكين الثائرة ما قُدِر على ذلك"، وهو كلام لا أجد أفضل منه لكي أقوله لخواجة زائر أو لمواطن مقيم، وعلى الله قصد السبيل.

...

فصل من كتاب (ماذا أحدثوا بعدك) تحت الطبع.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.