في مديح اللغات التي لا نجيدها

في مديح اللغات التي لا نجيدها

18 يناير 2023
+ الخط -

في الطريق من منزلي في القرية إلى مدينة رام الله، سألني جندي إسرائيلي على الحاجز عن التخصّص الذي أدرسه بعد أن لاحظ بطاقتي الجامعية داخل محفظتي. أجبته بأنني أدرس في برنامج الماجستير، تخصّص "الدراسات الإسرائيلية". عاد وسألني فورًا عن المحتوى الذي ندرسه في هذا التخصّص. لغتي العبرية رديئة، لهذا لم أستطع أن أوّضح له مفاهيم على غرار الاستعمار الاستيطاني والنظام السياسي الإسرائيلي وتاريخ الصهيونية ومفاهيم أخرى كثيرة. هنا قد أحتاج إلى الحديث في مواضيع لا أرغب في التطرّق إليها، ابتداءً من حقه في طرح مثل هذا السؤال، ونهايةً في كمية الأسئلة التي سيُلحقها في حال وضحت له كلّ هذه التفاصيل التي تحتاج إلى دقائق كثيرة. وطالما لغتي العبرية لا تحتمل حوارًا من هذا النوع، أجبته بكلّ بساطة: "ندرس المجتمع الإسرائيلي".

كانت هذه الإجابة مختصرة جدًا، ليس فقط لأنني لا أريد الحوار معه، وأنه ليس من حقه أن يسألني مثل هذا السؤال قط، بل لأنني، بكلّ بساطة، لا أستطيع الإجابة باللغة العبرية.

في الطريق من القرية إلى رام الله جلست على النافذة الخلفية من التاكسي أفكر في هذا الموقف: كيف لي أن أختصر كلّ شيء لا أحبّ أن أتوّسع في التفكير فيه؟ أجبت لنفسي أنني أستطيع أن أفكر باللغة العبرية، وقتها لا يمكنني أن أفكر في كلّ القضايا التي سئمت التفكير فيها، وربما سأختصر كلّ إجاباتي عن أسئلتي، وربما أصلًا لا أستطيع أن أطرح أسئلة تحتاج إجابات مطوّلة إذ ما فكرت باللغة العبرية.

قال دكتور في اللغة العربية ذات مرة لطالبة ادّعت أنّ هنالك إجابة ما في رأسها ولكنها غير قادر على توضيحها، إنّ الأفكار غير منفصلة عن اللغة، لا يمكنك تكوين فكرة أصلًا إلا إذا تكوّنت على شكل عبارة ما في رأسك.

أنا الآن مدين لهذا الدكتور على هذه العبارة، فكلّ الأسئلة التي أحاول الإجابة عنها تتكوّن بكونها عبارات باللغة العربية، وكذا محاولة الإجابة عنها. نعم كان دكتور اللغة العربية محقًا، فلم تتكوّن عندي يومًا مقولة ما إلا بكونها مرتبطة بالمفاهيم التي تقال فيها هذه المقولة، اللغة مهمة وغير منفصلة عن المعنى.

لا يمكن للمرء تكوين فكرة ما إلا إذا تكوّنت على شكل عبارة ما في الرأس

أنا متأكد تمامًا أنّ بطل الرواية الفلسفية الشهيرة "كيف أصبحت غبيًا؟"، للكاتب الفرنسي مارتن باج، لم يفكر في هذه الخطوة، فلو فكر فيها لما احتاج إلى أنّ يصبح سكيرًا أو أن يحاول الانتحار أو أن ينغمس في السوق الاستهلاكي.

صحيح أنّ التفكير بلغة لا تتقنها سيحمل جهدًا كبيرًا، إلا أنه جهد تقني، لا يمكنه أن يحطّم شيئًا ما في داخلك. ولا أعتقد أنّ صديقي العدمي على سبيل المثال، سيستطيع أن يسائل نفسه عن معناها في هذا الكون الكبير بلغة لا يتقنها، أو بالأحرى يمكنه تبسيط أسئلته إلى حدٍّ لا يمكن للإجابة عنه أن تأخذ من يومه وقتًا كالوقت الذي تأخذه الأسئلة التي يطرحها بمفاهيم اللغة العربية المُعقدة، أو بالأحرى بالمفاهيم المعقدة التي يتقنها.

الآن أعتقد أنني من الممكن أن أختصر كثيرًا من التفكير المرهق في قضايا كثيرة فقط إذا فكرت فيها باللغة العبرية التي لا تسعفني معرفتي فيها على إجراء حوار طويل ومتعب في مخيلتي.

أنا الآن أتعلم اللغة العبرية بحكم تخصّصي، وكلما زادت قدرتي على ممارستها، قلّت فرصتي في الهروب من كلّ هذه الحوارات الطويلة والمرهقة.

لقد كان قرار نشر هذه التدوينة اختبارًا حقيقيًا لمحتواها. ففي العادة كنت قد أفكر لساعات حول نشرها، وأتساءل عمّا إذا كنت سأندم بعد أيام قليلة من نشرها أم لا، إلا أنني في لحظة واحدة، وبسهولة تامة قرّرت نشرها بعد حوار ذاتي سريع لم يدم سوى بضع ثوانٍ، لكنه كان باللغة العبرية.