في مجالس شيخي الحكيم (4)

30 ابريل 2023
+ الخط -

شيخي رجلٌ طاعنٌ في السن، لكنه خَبَرَ الناس، وعَلِمَ تقلبات الزمان، وله في الحكمةِ باعٌ طويل، وأنا أزورهُ بين الفينةِ والأخرى لأتزوّدَ من حكمته.

هو معتكفٌ في خلوته يتعبّد بالتفكّر، ويرى أنّ تلك العبادة أهملها كثيرٌ من الخلق.

وهنا أوردُ بعضاً مما دار في مجالسه.

(1)

قلتُ لشيخي: كيف حُبُّ النساء؟

قال: جهدُ البلاءِ.

قلتُ: أليست النساء من نِعَمْ الدنيا؟

قال: بلى، لكن قرب منْ لا تحب جهدُ البلاء.

قلتُ: منْ قال هذا الكلام؟

قال: شيخنا الشافعي - رضي الله عنه.

قلتُ: رضي الله عنه، ماذا قال؟

قال: هذه أبيات قالها:

أَكْثَرَ النَّاسُ في النِّسَاءِ وَقالُوا

إنَّ حُبَّ النِّسَاءِ جَهْدُ الْبَلاءِ

ليسَ حبُ النساءِ جهداً ولكنَ

قُرْبُ مَنْ لاَ تُحِبُّ جُهْدُ الْبَلاءِ.

***

 

(2)

سألتُ شيخي: هل الإنسان مُسيَّر أم مُخيَّر؟

قال لي: قد أجاب الإمام الغزالي عن السؤال بقوله: "الإنسان مُخيَّر في ما يعلم ومُسيَّر في ما لا يعلم".

أما الشيخ محمد الغزالي المصري، فيشرح قول الإمام الغزالي، قائلاً: "أي أنه يزداد حرية كلما ازداد علماً!"

قلتُ: وماذا تقول أنت يا شيخي؟

قال: الإنسان مخيَّر في ما مكّنه الله ومسيَّر في ما لا يستطيع له، ويكاد يكون مُسيّراً في ما هو مخيّرٌ فيه.

قلتُ: كأنك تقول إنه مسيَّر لا مخيَّر!

قال: ليس تماماً؛ فهو مُخيّر بحكم ما أتيح له من حرية، وإلا سقط الحساب، لكن حريته تلك محدودة!

قلتُ: فسّر لي.

قال: هَبْ أن شخصاً قال لك: أنت حر أن تختار أياً من الأبواب الثلاثة التي أمامك لتخرج منها؛ فهل أنت هنا مسيّر أم مخيَّر؟

قلتُ: مخيَّر.

قال: نعم، لكن ضمن ما أتيح لك من حرية؛ فلقد حدّدَ حريتك بالأبواب الثلاثة التي منحها لك،

فهل لك أن تختار باباً رابعاً؟

قلتُ: لا، لأنه غير موجود.

قال: وهكذا هو تخييرك!

***

 

(3)

قلتُ لشيخي: هل قول الحق يُنقص العمر؟

قال: لا، منْ قال ذلك؟

قلتُ: أنا قلتُ ذلك!

قال: ولمَ قلتَ ذلك؟

قلتُ: لأني رأيت الناس صامتة ولا تقول الحق، وهي ترى كثرة الظلم، فظننت أن قول الحق يُنقص العمر!

قال: لن تموت نفسٌ إلا وقد استوفت رزقها، وجاءها أجلُها، وما كان قول الحق يقلل الرزق أو يستقدم الأجل.

قلتُ: إذا كان الأمر كذلك، فلمَ صمت الناس عن قول الحق؟

قال: ما كل الناس عندهم الجرأة لقول الحق في وجوه الظلمة، خصوصاً في هذا الزمان؛ فهناك منْ يخاف على نفسه، وهناك منْ يراعي مصالحه، وهناك منْ لا يرى المظالم ولا يحس بها إلا إذا مسته!

قلتُ: أليس صَمْتُ الناس يُغري الظالم أن يوغل في ظلمه؟

قال: بلى هو ذاك ولا ريب.

قلتُ: فلمَ يصمتون، وهم يعرفون ذلك؟

قال: منْ قال إنهم لا يعرفون عاقبة الصمت؟ لكن إيثارهم للسلامة الحاضرة حجب عنهم رؤية العاقبة القادمة.

عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
عبد الحفيظ العمري
كاتب ومهندس من اليمن، مهتم بالعلوم ونشر الثقافة العلمية. لديه عدّة كتب منشورة إلكترونيا. الحكمة التي يؤمن بها: "قيمة الانسان هي ما يضيفه للحياة ما بين حياته ومماته" للدكتور مصطفى محمود.
عبد الحفيظ العمري

مدونات أخرى