في داخلك.. سماواتٌ وكواكب ومجرّات
كلّما جفّ الشعرُ في اللغة، وفي اقترابِ الشاعر من القصيدة، تكاثفَ وترقرقَ أكثر في الروح. تلك الحالة من الشعر التي تحسّها داخل أعماقك، وأنت تذهب مساءً، وحيدًا على بلاطاتِ المدينة بين الناس، أو بين أشجار متنزهٍ فارغٍ، هي أهم وأعمق من ترتيب الكلماتِ وترصيصها على الأوراق. تلك الطاقة الجوانيّة، والتي حين تتضاعف وتتضخم وتتكاثف كغيومٍ داخلك، تتحوّل إلى شعرٍ صامتٍ لا يعادله إلا تأمّل صامت للذات، وللوجود، في معزلٍ عن أيّ علاقاتٍ اجتماعيّة عابرة بالآخرين أو حتى مُقيمة، وفي معزلٍ عن الزمن المؤقّت والسريع والاستهلاك.
إنّها علاقتك بنفسك فقط، بصوتِ أنفاسك، ورجع صدى دقاتِ قلبك في الممرّات المهجورة لحياتك. حركةُ شَعرك في الريح وحفيف أوراق شجرة تظلّلك. ظلّك على الأرض. عرقك الخفيف بعد مشيٍ طويلٍ دون كلامٍ، ودون جهد، وتطلّعك العفوي المستمر إلى الآفاق. دون رفقة على الأرجح سوى رفقة أعضائك. إنصاتٌ لروحك عبر حركاتها وتمظهراتها في جسدك وفي الوجود. للزائل والمتغيّر والناقص..
وكما لو أنّك، رغم كلّ تلك الأعطاب المتأصّلة في الإنسان والكون التي تقضي على كلّ شيءٍ في مسيرةٍ مُضادةٍ للكمال، كما لو أنّك أنت نفسك أوراق الأشجار الذابلة في مهبِّ النسائم والرياح، البحيرة التي تنعكس فيها المجرّات والصخرة التي شحذ عليها الزمن حكمته واقتداره، الجحر والشعاع والرتيلاء، كما لو أنّك أنت نفسك العناصر كلّها، الصلابة والهلام، الفصول مجتمعة في تنهيدة.
فأنت أيضاً المقيم والخالد في لمعانِ المعدن الخافت الذي تصقله ظلماتُ الأعماق وبأسها واشتدادها. ما لا يمكنك الشعور به إلّا وأنت المضيف المستمر داخل صدرك وأعماقك لتلك الهيولى من المشاعر، والأحاسيس، والخاطر الغائم التي كلّها ليست من هذا العالم، بل من عالمٍ مُوازٍ، لامادي، غير خاضعٍ لقوانين الفيزياء والقوانين الاجتماعيّة البشرية..
الشعر دائماً هو ذلك الغائم الضبابي السرابي البعيد عن الوقوع في شراكِ الكلمات وحبائل المعنى
وليست الأشعار سوى ترجماتٍ خائنة لتلك اللغة المتمنّعة عن الكلمات في محاولاتٍ فاشلة لنقل جوهرٍ إلى جوهرٍ آخر، مختلف عنه، وتحويل ما هو عزلة خالصة وصمت وإقامة في الذهول إلى ثرثراتٍ وضجيجٍ وزوال. بل إنّك حين تنصتُ إلى الماء، وإلى الريح، وإلى الكائناتِ، تنصتُ إلى الشعر دون وساطة.وتراه، تلمسه، تشمّه، وتتذوّقه، ويتكاثف كلّ ذلك داخلك في صمتٍ، وأنت تتمشّى وحيدًا، أو تجلس مقابل النهر، ظهرك إلى المدن المتلألئة بالأضواء دون التفاتٍ إليها، أو مقابل جدار عتيق يفصلُ الأزمنة عن بعضها، كما بين الناس أيضًا في عزّ الألفة والسمر والحياة. عزلتك الخاصة التي تتعلّم منها أسرار الوجود دون معلمين. تلك المنطقة الغنوصية داخلك التي هي امتدادك الحقيقي في الطبيعة والعناصر حين ستعود إليها وتتلاشى فيها وتتلاشى فيك. شكلٌ من أشكال الخلود بالزوال، والبقاء بالانمحاء، والإقامة بالعبور والاندثار، لا يمسك بها إلا وعي حسّي وروحي صامت، ينتابك بجرعاتٍ كبيرة من الهدوء والحبّ والحكمة والشجن والمعرفة الداخليّة الكتيمة الصامتة لهذا الوجود ولأسراره، تدفعك إلى الشعر أحيانًا دون أن تلغيه داخلك حين لا تلبّي نداءها بل تضاعفه أكثر. تمشي وتمشي وتمشي، مستمتعًا بأعماقك كما لو أنّها معزوفة سماوية في حلمٍ، خفيفًا، متخفّفًا من كلًّ ما يعيقك، متأكدًا أنّك لست أنت الذي يمشي، ولست الذي يعرفه الآخرون، ولست ما تعرفه عن نفسك. لست فلان الذي ولد سنة كذا، وسيموت سنة كذا، وقد عايش كذا وكذا، وفعل كذا وكذا، وقال كذا وكذا.. بل أنت -فقط- ذلك الإحساس العميق الجواني داخلك الذي لا أحد يراه أو يستطيع لمسه، بمن فيهم أنت. إحساسٌ فقط، من طبيعةٍ أخرى وجوهرٍ آخر. مادة الخلق الأولى، التي يصيرُ البشر بعد جفافها مجرّد أجساد وآلات تذهب وتجيء داخل المؤقّت والزائل. ذلك الشعور داخلك بالسماوات والكواكب والمجرّات والزمن، وما خلف الزمن الذي تفشل حتى الموسيقى في ترجمته. إلّا أنّها، أي الموسيقى، هي أكثر ما يمكنها التعبير عنه لأنّها من طبيعة أقرب إلى طبيعته المتعالية. الموسيقى فقط، وأنت تحسّ بالشعر دون أن تكتبه، إذ إنّ الشعر دائمًا هو ذلك الغائم الضبابي السرابي البعيد عن الوقوع في شراكِ الكلمات وحبائل المعنى. تلك الثمالة في أقصى الملكوت، حيث عوض أن تصعد، تنزل بصمتٍ، لاختبارِ الأعماق..