في حمص... لا تشتروا حلاوة الجبن!
وحيدة في بيروت، أستعيد ذاكرتي القديمة، ويستعصي عليّ فهم كيف لأسبوع واحد فقط قبيل السفر، أن يحسم الأمر. ويختصر سورية التي أجلت لقاءها بحقيبة سفر واحدة، ووداعٍ يفيض بكل الأسباب لمنعي من العودة.
أخذت قرار الرحيل الأخير مطلع هذا العام، وكنت مجبرة عليه، بعدما باتت أنفاسنا تقض مضجع الموت الجاثم على صدر البلاد، ولا أمل في تعافيها أو انعتاقها من نيره. طردت كغيري ممن لا زال يحمل في قلبه نزعة للحياة، دونما اكتراث لمصائرنا المبهمة. ولم يكلفني الاستعداد للسفر أكثر من ساعة واحدة فقط أعددت فيها حقيبتي، وأجريت مفاصلة سريعة مع مكتب سفريات، وانتهى كل شيء. بسرعة حُدد موعد نقلي إلى ضفة موت جديد، لكنه على الأقل لا يعد الأنفاس، وأصبحت مستعدة للمغادرة إلى بيروت.
قبيل السفر بأسبوع واحد فقط، خضت صراعاً مراً مع ذاكرة لم أكن أحد صناعها، لكنها بدأت تنهش رأسي، ذاكرة عمادها فيديوهات اليوتيوب والأخبار العاجلة، وشعارات الحرية التي كتبت على جدران المدن الثائرة يوماً، وعندما سقطت تلك الجدران، ظلت وحدها عالقة في الأذهان ولم تسقط. وبنعمة من استطاع تحديد موعد رحليه بنفسه، ولم تحدده له التسويات والتهجير القسري، خجلت أن أخرج قبل أن أزور ما يسمح به الوقت المتبقي لي كضيفة ثقيلة على هذا البلد، فقصدت حمص، وكانت بحسب الرواية الحكومية قد استأنفت نشاطها كمدينة تائبة مطيعة بعدما كانت عاصمة الثورة إلى أجل ليس ببعيد.
أجريت اتصالات مع أصدقاء من المدينة، يعيش بعضهم في منفاهم القسري في المحرر، أو خارج الأراضي السورية، وتدبروا أمر استضافتي لدى عائلاتهم طيلة فترة إقامتي هناك، لأدخل حمص من دير بعلبة، بعد زيارة قصيرة لمدينة سلمية، ودعت فيها أحباباً، وعدداً يفوق عدد سكانها من الدراجات النارية.
تركزت إقامتي في حمص بين حيي الأرمن وباب السباع، المنفصلين بشكل يثبت قدرة النظام على تفرقة أهل البيت الواحد، وفي كلا الحيين وجدت نفسي بين أهلي وعائلتي، لكن خوفاً وحذراً شديدين رافقا توصيات الأمهات الحنونات عند تنقلي بينهما، ولكل منهما مبرره، أحدهما خوف مختبر، يعرفه كل من عاش تجربة القتل على يد الجار، ثم هجر عنوةً، وعاد اليوم إلى بقايا منزله وحيه يغلبه القهر بعد التسوية الأخيرة، والآخر خوف زرعه النظام في نفوس الأحياء المختلطة من الشركس والمسيحيين التي لم تثر ولكنها شهدت دمار وحصار غيرها، فالتزمت الصمت في حرمة الموت من حولها. وحافظت عليه إلى اليوم.
كيف يمكن لمدينة منكوبة إلى هذه الدرجة أن تحافظ على أخلاقها، بينما عجزت مدينتي والعاصمة عن فعل أقل من ذلك؟
عجزت وحدي عن ترويض كل هذا الخوف أو طمأنته بأمان الآخر، وتركته أخيراً على أعتاب المنازل التي زرتها، لأتجول دونه في المدينة المنكوبة، مررت بحيي الخالدية والبياضة، وقفت في الطريق الفاصل بينهما تماماً، وصوت عبد الباسط ساروت باكياً: "بدي افتح طريق للعائلات، يا أبو محمد، بدي افتح طريق للعائلات"، يعيد تكرار نفسه في رأسي، أسترجع معه مشاهد أخرى من فيلم العودة إلى حمص، وأدرك لو أن عبد الباسط كان هنا اليوم، لقبلت يديه وجبينه، وهتفت معه، لكنه استشهد بعيداً عن حمص، ولم يبق من خالدية التظاهرات اليومية وأغاني الثورة سوى الركام. فلم أجرؤ على دخول أي من الحيين.
أكتم دمعاً كاد ينفجر في حضرة الموت، وأحث الخطى إلى حمص القديمة، وكنت ما إن يرد اسمها في نشرات الأخبار حتى أتسمر أمام الشاشة، محاولةً اقتناص الفرص القليلة لرؤية معالمها، من خلف الأصوات المرتعدة للمراسلين، وأقارنها في مخيلتي بأحياء دمشق القديمة، فأجدها أبهى.
وها هي اليوم أمامي، لم تحتمل وداعتها فجور الآلة القمعية وحقدها، إلا أنك لن تحتاج أكثر من عينين سليمتين، وقلب ثائر، لترى على كل جدار من جدرانها كلمة (صامدون - حرية - وراجعين) تشف من تحت إعلانات ترحيل الأنقاض، وأرقام العاملين فيها، وقد طبعت عمداً فوق الشعارات المكتوبة بغية طمس معالم الثورة وفشلت.
لم يكن البؤس حكراً على حمص وحدها، ولعله الهوية الجامعة الوحيدة لمدن سورية اليوم، إلا أنها وبلا شك أكثرها بؤساً وحزناً، أذكر أنني في السنوات الأخيرة من إقامتي في سورية، كنت أسمي المدن بتسعيرة المتسولين فيها، فكانت مدينتي الأم، مدينة الألف ليرة، وكنت إذا ما مررت بأي شارع عام فيها، أصبح عرضة لتجمهر المتسولين من حولي، وغالبيتهم من الأطفال، يستحلفونني بكل ما يخطر على البال لأعطيهم ألفاً، ولا يقبلون بأقل من ذلك. أما في دمشق فكانت الألف لا تعجب من صادفتهم، ويمكن لأحدهم أن يتبعك على امتداد باب شرقي والقيمرية وباب توما، ولن يتركك وشأنك إن لم تشتر منه وردة بلاستيكية لا تحتاجها بخمسة آلاف كحد أدنى، وتعيدها إليه بعد عناء ليبيعها بسعر أعلى لعابر آخر.
وحدها طرطوس صدمتني، عندما صادفت فتاة صغيرة طلبت مني مائة ليرة فقط، فسألتها متأكدة إن كانت تقصد مائة ليرة سورية أم مائة دولار، استغربت سؤالي وقالت: "ليش خالتو قدرتك تدفعيلي أكتر من مية؟" عندها أدركت فقر المدينة، وزيف الدعاية لها كبيئة حاضنة للنظام، في الوقت الذي لا يجد فيه أهلها قوت يومهم.
وصلت إلى الحميدية، واتصال من أمي ذكرني بحلاوة الجبن التي أوصتني بجلبها، بعد أن حرمنا مذاقها الحمصي، طوال العشر سنوات الماضية، لم نكن نكترث نحن سكان المدن الجنوبية، إن كانت حلاوة الجبن حمصية أم حموية، كل ما كان يهمنا هو فقط حلاوة طعمها وذوبان جبنتها المشبعة بالقطر في الأفواه، وكنا نصطف أفواجاً على أبواب الاستراحات في طريق الرحلات الصيفية إلى طرطوس واللاذقية، لتذوقها مرة كل عدة سنوات، نظرت من حولي في السوق القديم، ولم أجد محلاً واحداً لبيع الحلويات، إلا أنني صادفت عربة يقف خلفها طفل، وقد رتب مجموعة ملونة ومنسقة بحرفية من السكاكر، فطلبت تصويره برفقتها، ورفض بكل عزة نفس، وسمح لي بتصوير العربة فقط، شعرت بالحرج الذي تسببت به، فعرضت عليه المال مقابل الصورة، ولو كان طفلاً من دمشق لكان يفاصلني في هذه على اللحظة على سعر الصورة، لكنه رفض أيضاً ولم يقبل بأي ليرة إن كنت لن أشتري بهذا المال من سكاكره، ردد بلهجته الحمصية الرقيقة: "ما باكل مال حرام"، "ما باكل مال حرام"، فرضخت له وأخذت قطعتين من السكاكر مقابل المبلغ الذي دفعته له، فارتبك وهو يعد المبلغ، لدرجة أسقط معها من جيبه غلة يومه ولم ينتبه، لو لم تنبهه سيدة حمصية أعادت له ماله مرفقاً بدعوات بالرزق، وتوصيات بالحرص أكثر.
كنت أتابع المشهد وأتخيل نفسي تحت جسر الرئيس مثلاً، ومجدداً لا يخطر في بالي سوى أن السيدة التي أعادت المال وهي تمر صدفة من جانب العربة كانت ستأخذه دون أي رادع، وغالباً لن تشعر بالندم، لكن هذه السيدة الحمصية لم تفعل، أنهى الطفل عد المبلغ، ونظر إليّ وفي يدي قطعتا سكاكر فقط، أمسك كيساً أسود، وأتخمه بالسكاكر حتى كاد ينفجر، وقال لي بهذا المبلغ هذا عدد السكاكر التي اشتريتها. لم أستطع مجاراته أكثر، فشكرته، وحملت سكاكري ورحلت.
وكل ما كان يدور في رأسي هو سؤال واحد فقط، كيف يمكن لمدينة منكوبة إلى هذه الدرجة، أن تحافظ على أخلاقها، بينما عجزت مدينتي والعاصمة عن فعل أقل من ذلك؟ وبات سكانها يأكلون بعضهم بعضاً دون حرج، خرجت من السوق إلى كراجات البولمان، ولم أشتر لأمي حلاوة الجبن، أحضرت معي تجربة قاسية وسكاكر بقي طعمها عالقاً في ذاكرتي إلى اليوم في بيروت.