العفوية في مزاج العائلة كذب غير معلن
أحببت في الصغر عائلة أمي أكثر من عائلة أبي، ليس لميزة فيهم، وربما فقط لكونهم يسكنون في المدينة، وزياراتهم المتباعدة بحكم الظرف، تترافق مع إسراف أمي بالترحيب بقدومهم، وإعداد أشهى الموائد.
في إحدى السنوات وكنت حينها لا أزال طفلة في الصف الثاني ابتدائي، تخلفوا عن زيارتنا فترة أطول من المعتاد، فقلقت وانتابني شعور كبير بالشوق، لأعود في أحد الأيام من المدرسة وأجدهم في منزلنا، الغداء جاهز، والجميع بانتظار عودتي للبدء بالأكل.
كان كل شيء على ما يرام، لولا أنني لم أتمالك نفسي، فارتميت في حضن جدي قبلته، وعانقته بقوة، وقلت معاتبة أول عبارة خطرت في رأسي: "معقول يا جدو ما بتزورنا إلا إذا عملنالك عزيمة وغدا"، وكنت قد اقتبست عبارتي هذه من "ما بدكن عزيمة لتزورونا"، إحدى عبارات المجاملة الدراجة التي اصطادتها أذني من أحاديث الكبار في القرية وظننت أنها جيدة للتعبير عن شوقي وعن امتعاضي من الفراق الطويل.
تغير وجه جدي فجأة، ورمى ملعقته بغضب على الطاولة، أزاحني من حضنه على الفور، ونظر لوالدي وقال: "نحنا شبعانين ببيتنا يا صهر ولسنا بحاجة نجي من بلد لبلد لناكل عند العالم"، انهارت أمي من هول الرد، واضطر جميع أفراد العائلة بمن فيهم جدتي للاعتذار عما صدر مني، متفقين على ضرورة توبيخي أشد توبيخ، في محاولة لاسترضاء الجد، دون الأخذ بعين الاعتبار ولو للحظة أن ما قلته كان عفوياً، وقد أحالوه إلى مقاصد أكبر مني، جذورها مرتبطة بالفروقات الطبقية بين أهل المدينة وأهالي الريف، وكرامة جدي ابن العز بعد أن تمرمغت في التراب بسبب ما قلته.
بكيت كثيراً يومها، وبدا لي أن كتمان المشاعر الحقيقية أفضل من التوبيخ عند التعبير عنها بصيغ غير ملائمة، تهدد السلم العائلي، وتحدث شرخاً سأكون ضحيته الأولى، فتعلمت درساً قاسياً يحتم علي التفكير في كل ما أقوله قبل أن أصرح به. ونظراً لعدم قدرتي على التمييز بين ما يجوزالتصريح به ويعتبر عفويا وبين ما يجب كتمانه في تلك السن الصغيرة، آثرت الصمت، وقلصت الاختلاط بالأقارب إلى الحد الذي يسمح بالاكتفاء بتبادل السلام ثم الانصراف للعب أو الدراسة.
استمر ذلك حتى اليوم الذي سحبتني فيه أمي بسرعة إلى المطبخ وقالت بحزم: "قولي إنه عندك دراسة ومانك حابة تروحي"، فهمت من نظرتها أن علي النطق بهذه الجملة ولو كلفني الأمر حياتي، إلا أني لم أفهم لمن علي أن أقولها ولماذا؟ يومها كانت عمتي التي تكرهها أمي في زيارتنا، وقبيل انتهاء الزيارة طلبت مني عمتي إعداد حقيبتي لمرافقتها وزوجها إلى منزلهما في المدينة لقضاء عطلة الانقطاع في ضيافتهما، شعرت بالمأزق الذي وضعت فيه دون إرادة مني، ونظرت باستغراب لأمي منتظرة أن تسعفني، إلا أنها بدت مبتسمة ولا دليل على أنها تمانع ذهابي بالمطلق. عمتي التي لحظت ارتباكي، أكدت لي أن والديّ موافقان ويرحبان بالفكرة، لكن نظرة أمي في خلوتنا في المطبخ بدت أوضح من هذا الاتفاق المبرم، فرددت ما لقنتني إياه حرفياً، وخرج ساذجاً وغبياً، وغير مقنع بالنسبة لعمتي، التي راحت تشرح أنها جهزت كل شيء لاستقبالي، غرفة خاصة في منزل لا أولاد فيه، هدوء طوال النهار، جاراتها مدرسات وسيساعدنني في الأمور التي أدرسها، وغيرها من المغريات التي جعلت من تصريحي بالعبارة السابقة خطأ فادحاً وددت لو أتراجع عنه. إلا أن الأمر كان محسوماً منذ البداية، وبات علي الآن التفوه بأول شيء يخطر في رأسي لإنهاء الموقف، فقلت بقلق من النتيجة المترتبة على ما سأقوله بأنني لا أعرف النوم على سرير غير سريري، وبقائي مستيقظة سيقلل من تركيزي، والامتحانات على الأبواب، لن يكون ذلك في مصلحتي، فابتهجت أمي وانفرج وجهها بعد أن توترت من إذعاني لمغريات عمتي والتصريح بالموافقة، وعندها لن يكون بوسعها سوى الرضوخ، وتركتني عمتي وشأني بعد أن وعدتها بزيارتها لاحقاً في العطلة الصيفية. وحل سلام غير متوقع ونجوت من التوبيخ.
أثنت أمي على ردي يومها، فعلقت مستغربة: "لكنه عفوي ولم أفكر قبل التصريح به"، فأجابت لا بأس العفوية ليست سيئة حين توضع في مطرحها، عندها أدركت أن العفوية المقبولة في العائلة هي الكذب غير المعلن عندما يتناسب مع مزاج الأهل وأهوائهم.