في الرحلة الميمونة إلى القرية الميمونيّة (2)
مصطفى العادل
تبعد قرية "آيت ميمون" عن مدينة إنزكان المشهورة بما يقرب من ثلاثين كيلومترا في اتجاه ساحل المحيط الأطلسي مرورا بجماعة "سيدي بيبي" إقليم "اشتوكة آيت باها".
تبدو أسماء الدواوير التي تضمّها الجماعة، إضافة إلى "آيت ميمون"، أمازيغية الإنسان والتاريخ، وإن أصبحت بفضل عوامل اجتماعية واقتصادية، وبفعل عوامل الهجرة بخاصة، في نظر مؤرخ القرية الدكتور خالد ألعيوض، قرية تضم في شِعابها الهادئة وأزقتها المسالمة العالم بأسره.
تعرضت القرية، كما يروي المؤرخ ألعيوض، لتغيرات جذرية في العقود الأخيرة، متأثرة بالتغيرات السريعة التي عرفها العالم، ولم تستطع مقاومة الأفواج البشرية التي قصدتها من كل مناطق المغرب، ومن دول أفريقية عديدة بحثا عن الأمن والاستقرار، وقد أصبحت القرية صورة مصغرة لقارة أفريقيا الكبرى بفضل احتوائها 17 جنسية أفريقية اليوم، كما أنها صورة مصغرة للمغرب بعدما احتضنت أفرادا من مختلف القبائل المغربية عربا وأمازيغ.
أسهم هذا التنوع والتعدد في تشكيل صورة القرية اليوم، فهي العالم الرحب الذي يسع الجميع، لغات متعددة، وجنسيات مختلفة، وأعراق وألوان متنوعة، امتزجت كلها في قرية صغيرة هادئة لتقدم للزائر أنموذجا فريدا عن كل معاني التعدد والتسامح والاختلاف والرحمة، وهذا التنوع لم يكن حديث العهد في القرية، بل كان - حسب المؤرخ ذاته - الطابع المميز للقرية منذ القدم؛ حيث تعايشت فيها مختلف العقائد والجنسيات والأعراق واللغات.
من تلك القرية العامرة، خرج العالم البلاغي المغربي محمد بازِّي، حاملا معه رؤية تجديدية للدرس البلاغي والتأويلي، انعكست فيه تلك المعاني من أجل الإنسان والكون، معتزا بحضارته ودينه ولغته وثقافته، مصححا ما شاب نظرة الإنسان الحداثي بفعل التأثير المادي الدنيوي والتفكير الشهواني العابث، داعيا إلى تبني رؤية العالم القائمة على الاختلاف والرحمة والعدل والتسامح والعمل من أجل سعادة الإنسان في الدنيا والآخرة.
وخرج من القرية الميمونية العامرة، ومن ظروف اجتماعية صعبة، نوابغ وعلماء، وباحثون في تخصصات مختلفة، وموظفون في إدارات ومؤسسات متعددة، فأسهموا جميعا في ازدهار القرية، إذ استطاعوا تلبية حاجيات الساكنة الضرورية من ماء، وكهرباء، وطرقات، وناضلوا من أجل تقريب المؤسسات من الساكنة في وقت وجيز، واستطاعوا تحقيق هذا الازدهار من خلال أعمالهم الجمعوية، ومبادراتهم التطوعية، وأدوارهم الفردية والجماعية الفريدة.
لم يغير ذلك الازدهار والتغير قيم القرية وأخلاقها العالية مع الوافدين والضيوف، إذ يشعر المرء وهو في ضيافة "آيت ميمون" باطمئنان كبير
ولم يؤثر التقدم والازدهار على الطابع الديني السمح، والإنساني السامي للقرية، وعلى العلاقات الإنسانية الراقية التي تجمع أفراد القرية فيما بينهم باختلاف طبقاتهم الاجتماعية ومستوياتهم العلمية والاجتماعية.
ولم يغير ذلك الازدهار والتغير قيم القرية وأخلاقها العالية مع الوافدين والضيوف، إذ يشعر المرء وهو في ضيافة "آيت ميمون" باطمئنان كبير، وصدق عجيب في القول، وكرم وفير في التعامل، وغيرها من القيم والأخلاق التي بدأنا نفتقدها في حياتنا المعاصرة، وبخاصة في المدينة الحديثة.
تنمّ الطرق المعبدة والأزقة النظيفة وحسن العلاقات بين الساكنة عن العمل الكبير الذي يقدمه كل فرد، وعن المسؤوليات الجسام التي يتحملها كل إنسان في القرية، صغيرا أو كبيرا، امرأة أو رجلا، من أجل قريته ومستقبلها، ويعبِّر عن حجم النضال والتضحيات التي يبذلونها مؤمنين بأن أي تقدم وازدهار لا يبدأ إلا من الداخل، كما أن أي تغيير حقيقي - كما يخبرنا بذلك جل في علاه - لا يبدأ إلا من النفس.
علمتنا القرية العامرة "آيت ميمون" أن القرى والمدن إنما تزدهر وتحقق نجاحات كبيرة في وقت وجيز تجاه الحضارة الإنسانية السامية التي تقوم على حقيقة إسعاد الإنسان كلما أدرك كل فرد من أفرادها مسؤوليته الرئيسة في التغيير، وكلما آمن كل فرد فيها بقدراته وأدواره الحاسمة في النجاح. بينما تظل المدن على تخلفها، وربما ترجع دركات إلى الخلف في سلم الانحطاط وفساد الإنسان كلما تسرب إلى أعماق أفرادها الهوان والكسل والاتكاء على الغير، وماتت فيهم قيم العزيمة والإصلاح والإرادة القوية في التغيير.
هذا غيض من فيض، وللوافد من المدينة العربية الموحِشة على قرية "آيت ميمون" الهادئة العامرة عِبرٌ ودروس تعجز الكلمات في ترجمتها، فما بال الذي يأتيها من القرى الأمازيغية بأعالي جبال الأطلس، بفهم لغة الساكنة، ويشعر بأن شيئا ما يربطه بأهل سوس لغة وأخلاقا ودينا وعادات وتقاليد، وما بال التي يأتيها من أجل العلم وفي نفسه شيء عظيم عن حضارة سوس العريقة العالمة، وعن علماء سوس ورجالها الأفذاذ ومجاهديها الكبار.