فقه الميزان ورسالة الصلح بين الترك والأفغان

16 أكتوبر 2021
+ الخط -

إصلاح الفساد وردت فيه معان كثيرة كلم الشعث، وضم النشر، ورم الرث، وسد الثغر، ورقع الخرق، ورتق الفتق، وأصلح الفاسد، وأصلح الخلل، وجمع الشتات، وجبر الوهن والوهي جميعاً، ولذلك يولي فقه الميزان عناية قصوى بالنصيحة التي تفضي إلى جمع الكلمة و"اعتصموا بحبل الله جميعاً ولا تفرقوا"، بل إنّ فقه الميزان هو جزء من كل ما يدعم الأمر بالمعروف والنهي عن المنكر، وأن هذه النصيحة ليست للمستضعفين فقط، بل لأئمتهم أيضاً، وقد حصر الرسول صلى الله عليه وسلم الدين في النصيحة، فقال: "الدين النصيحة"، قالوا لمن يا رسول الله؟ قال: "لله ولرسوله وللمؤمنين"، والآيات والأحاديث كثيرة في هذا المجال.

ومن الجانب العملي والتطبيقي نجد أنّ الخلفاء الراشدين رضي الله عنهم كانوا حريصين أشد الحرص على ضرورة أن تقوم الأمة بواجبها في النصح والإرشاد والمراقبة والمحاسبة، فهذا الخليفة عمر رضي الله عنه قال: "يا معشر المسلمين، ماذا تقولون لو ملت برأس إلى الدنيا هكذا"؟ فقام إليه رجل، فقال: أجل كنا نقول بالسيف هكذا (وأشار إلى قطع الرأس) فقال عمر: "أإياي تعني بقولك؟" قال الرجل: نعم إياك أعني بقولي، فقال عمر: "الحمد لله الذي جعل في رعيتي من يقومني إذا اعوججتُ"، وقال حذيفة رضي الله عنه: "دخلت على عمر يوماً فرأيته مهموماً حزيناً"، فقلت له: ما يهُمّك يا أمير المؤمنين؟ قال: "إني أخاف أن أقع في منكر، فلا ينهاني أحد منكم تعظيماً"، قال حذيفة: والله لو رأيناك خرجت عن الحق لنهيناك، فسرّ عمر وقال: "الحمد لله الذي جعل لي أصحاباً يقومونني إذا اعوججتُ"، وعن الحسن بن علي رضي الله عنهما قال: "كان بين يدي عمر وبين رجل كلام في شيء"، فقال الرجل: اتق الله، فقال أحد الجالسين، أتقول لأمير المؤمنين: اتق الله؟ فردّ عمر: "دعه فليقلها لي، فلا خير فيكم إذا لم تقولوها، ولا خير فينا إذا لم نقبلها"، فهذه قمة المساءلة.

ومما يدخل في باب النصح والمحاسبة والمراقبة: الثورات الشعبية، والمظاهرات والاحتجاجات، ونحوها. من الوساطات بين الأشقاء فنحن بأمسّ الحاجة إلى التقارب، فالتعاون، فالتشارك، فالوحدة بين المسلمين، ففي ذلك قوتنا (وَلَا تَنَازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَتَذْهَبَ رِيحُكُمْ) الأنفال 46.

لقد داعبت أطياف السعادة روحي بتحقيق التواصل الأخوي بين تركيا وأفغانستان، فهذا هو لب رسالة فقه الميزان: إقامة العمران وفق الأخوة والمصالح المشتركة و هو المطلوب تحقيقه بين المسلمين، بل إنه من واجب الأخوة الإيمانية (إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ) الحجرات 10.

رحم الله الإمام الشافعي الذي قال:
لما عفوت ولم أحقدْ على أحد * أرحتُ نفسي من هَمِّ العداواتِ
إِني أُحَيِّ عدوي عند رؤيتِه * لأدفعَ الشر عني بالتحياتِ
وأظهر البشر للإنسان أبغضه * كأنما قد حَشى قلبي محباتِ
الناسُ داءٌ ودواءُ الناس قُرْبُهم * وفي اعتزالهم قطعُ الموداتِ

إن دور العلماء وفق فقه الميزان يعيد للعلم مكانته على قاعدتي: 
• الثقة بالعلماء.
• إعادة دورهم في المصالحة والمناصحة الخالصة لله تعالى، وتحقيق السلم الأهلي والعدل لمصلحة البلاد والعباد.

وهذه قصة تحرك فقه الميزان لوساطة علمية في الجمع بين الأشقاء في تركيا وأفغانستان، من الشقاق وصولاً إلى الوفاق وترسيم زيارة وفد أفغاني رفيع المستوى إلى أنقرة.

البداية:

حضرت المؤتمر العالمي لتوحيد المواقيت بين المسلمين في أوروبا وغيرها في يوم 26- 27 سبتمبر/أيلول الماضي، وقدمت الجلسة الافتتاحية، وبحثاً، ورئاسة لإحدى الجلسات، والتقيت على هامش المؤتمر بفضيلة أ. د علي أرباش رئيس الشؤون الدينية بتركيا، والحمد لله كان المؤتمر موفقاً حيث نجح في الوصول إلى تقويم موحد ووافق عليه جميع الحاضرين بمن فيهم أصحاب التقاويم، وذلك لأن المؤتمر قد تمّ بعد عدة ندوات وورش عمل منذ عام 2016.

بدأت حركة التطبيق العملي تتجلى من خلال تحركات ميدانية، فقد وصل إلى الدوحة وفد كبير يرأسه وزير الخارجية في الحكومة المؤقتة الأستاذ أميرخان متقى، ومعه عدد من الوزراء والمسؤولين

من إسطنبول:

والمهم أن مسؤول العلاقات بالشؤون الدينية طلب مني ترتيب لقاء مع فضيلة رئيس الشؤون الدينية، وقد تم ذلك في يوم الخميس بإسطنبول 30/9.

تناقشنا لمدة عدة ساعات حول:
• قضايا الأمة وتوحيد الخطاب في القضايا الكبرى.
• المسألة الأفغانية والعلاقة مع حكومة طالبان.

وتم الاتفاق على أن أعرض على قادة الأفغان -بحكم صلتنا بهم صلة الأخوة والتشاور– زيارتهم لتركيا أو زيارة وفد رفيع المستوى إليهم في أي مكان يريدون.

إلى الدوحة:

دعمت المقترح وتحركت على تحقيقه وعندما عدتُ إلى الدوحة تم التواصل بيني وبين ممثلي حكومة طالبان..

تم الاجتماع في قطر يوم الأحد 3/10 /2021، فأخبرت القيادات الأفغانية بالاجتماع الذي جرى في إسطنبول وفصلت لها القول حسب فقه الميزان: 

• الانفتاح والتعامل مع الدول بروح إيجابية مبنية على قاعدة جلب المصالح.
• توسيع الصداقات وتقليص العداوات.
• تفعيل قاعدة الأخوة والكل يربح.

استمع الأفغان إلى ما قلته ورحبوا بمقترحاتي وعلقوا أنّ الأمر سيعرض على قادتنا بأفغانستان.

الوفد الأفغاني يصل إلى الدوحة:

بدأت حركة التطبيق العملي تتجلى من خلال تحركات ميدانية، فقد وصل إلى الدوحة وفد كبير يرأسه وزير الخارجية في الحكومة المؤقتة الأستاذ أميرخان متقى، ومعه عدد من الوزراء والمسؤولين.

أحاديث حول الحكم الرشيد وتركيا:

التقيت بالوفد الأفغاني يوم الأحد 10/10 واستعرضنا مسائل دقيقة وحساسة وبخاصة:

• قضية أفغانستان.

• موازين الحكم الرشيد القائمة على العدل والمساواة، والمشاورة ونحوها، فالحكم الرشيد يمثل خلاصة الأدلة الشرعية الكثيرة المتضافرة في هذا المجال، بل بقايا الشرائع السماوية، والفطر السليمة التي استقرت في نفوس الشعوب والتي تتطلع إليها وإن لم تصل إليها، وقد عبر الإمام الشاطبي عنها بقوله: (إنها كلية أبدية، وضعت عليها الدنيا، وبها قامت مصالحها في الخلق، حسبما بيّن ذلك الاستقراء، وعلى وفاق ذلك جاءت الشريعة أيضاً، فذلك الحكم الكليّ باق إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها).

هذا النظام العام يقوم على مجموعة من القواعد الكلية، والمبادئ الأساسية، والمقاصد العامة لهذه الشريعة، وقد أشار إلى الالتزام بهذا النظام العام الخليفة أبوبكر الصديق رضي الله عنه، بل ربط بين الالتزام وبين وجوب الطاعة، فقال رضي الله عنه في أول خطبة له بعد انعقاد الخلافة له: "أيها الناس إني قد وُلّيت عليكم ولست بخيركم، إنْ أحسنتُ فأعينوني، وإنْ أسأتُ فقوموني، الصدق أمانة، والكذب خيانة، والضعيف فيكم قويّ عندي حتى آخذ الحق له، والقويّ فيكم ضعيف عندي حتى آخذ الحق منه -إن شاء الله- لا يدع قوم الجهاد في سبيل الله إلا ضربهم بالذل، ولا تشيع الفاحشة في قوم قط إلا عمهم الله بالبلاء، أطيعوني ما أطعتُ الله ورسوله، فإذا عصيتُ الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم".

حيث أوضح الخليفة برنامج عمله الذي يقوم على مجموعة من المبادئ والحقوق المتبادلة من أهمها:

1. أن صحة خلافته، أو حكمه، مرتبطة بالالتزام بالنظام الإسلامي، وهو أطيعوني ما أطعتُ الله ورسوله، فإذا عصيتُ الله ورسوله فلا طاعة لي عليكم).

2. أن الأمة هي مصدر المراقبة والمحاسبة، والتقييم والتقويم، وهي القادرة على الخلع كما كانت قادرة على العقد.

3. إن السلطة المطلقة مفسدة مطلقة، وإن حق السلطة لأحد ليس حقاً خالداً، وإنما هو حق مقيد بمدى التزامته بـ:

أـ الإحسان والإتقان وتحقيق الغايات المنشودة والأهداف المقصودة من الخلافة، أو الحكم، وهي: السعي الدائب، واستفراغ الجهد، وبذل المستطاع لتحقيق سعادة الدارين، وتعمير الأرض في ضوء منهج الله تعالى، وتحقيق التنمية الشاملة للإنسان، ولذلك طلب من الأمة مساعدته على تحقيق ذلك، مع نُصحه، وإرشاده، ومحاسبته بل تقويمه، وإعادته إلى جادة الصواب، وأنه إذا لم ينفع النصح والإرشاد، فيكون السبيل هو الخلع والإبعاد.

ب- قدرته على تحقيق العدل بين الناس والابتعاد عن الظلم والاعتساف.

ج- حماية الأمة وأمنها السياسي والاجتماعي من المتربصين بها في الداخل والخارج.

4. أن العلاقة تكون قائمة على الصدق والشفافية والبيان والابتعاد عن الكذب، والغش والتغرير والتدليس والخيانة.

ثم ذكرتهم بقضية التواصل مع تركيا فرحبوا بالفكرة، وأبدوا استعدادهم لزيارة تركيا إن وجهت إليهم دعوة رسمية، فعدت أحمل الرسالة وأخبرت رئاسة الشؤون الدينية بذلك، وقالوا "نعمل اتصالاتنا ونرتب الأمور بالتنسيق مع وزارة الخارجية".

لقاء قبل الوداع:

في يوم الأربعاء 13/10 اتصل بي الناطق الرسمي باسم الإمارة وأعلمني أن الوفد سيسافر، وأنه استجاب لدعوتي، وطلبوا اللقاء بي وحصل ذلك بالفعل، بل ودعوتهم إلى العشاء وقمت بتوجيه الدعوة إلى بعض الشخصيات المهمة، والعلماء، وبخاصة أعضاء الاتحاد، وعلى رأسهم رئيس الاتحاد فضيلة العلامة أ. د محمد الريسوني حفظه الله، وكذلك دعوت سعادة السفير التركي الذي كانت معه رسالة إليهم.

وبعد العشاء جلسنا جلسة خاصة (وزير الخارجية الأفغاني والسفير التركي، وأنا)، ونسقنا ترتيب الزيارة رسمياً عن طريق وزارة الخارجية.

سافر الوفد صباح الخميس 14/10 إلى أنقرة، وأعلن عن اللقاء الرسمي بين الوفد الأفغاني ووزير الخارجية التركي جاووش أوغلو، وغيره من المسؤولين. والحمد لله.

إن رسالتي حسب فقه الميزان هي أن أعيد لأهل الفقه دورهم وأن بمقدور العلماء أن يكون لهم الدور المطلوب حسب النصوص الشرعية التي توجب عليهم أن يقوموا بدور الدعوة والإرشاد والنصيحة، والصلح والإصلاح، وبيان الحق والرشاد فقال صلى الله عليه وسلم "العلماء ورثة الأنبياء".

حيث يدل هذا الحديث أنّ على العلماء أن يتحمّلوا جميع ما كلف به الرسول صلى الله عليه وسلم من التبليغ، والبيان والعمل والقدوة. وأنّ الفقه هو حسب فقه الميزان مخ الشريعة وعقلها في عمران الأرض دون مخاصمة قيم السماء.