المواطنة وفق فقه الميزان... قراءة على ضوء المعارف المعاصرة (1)
إننا في عصرنا الحاضر أمام مجموعة من المصطلحات (السياسية والاجتماعية والاقتصادية، و..) تكونت لها مفاهيم خاصة وأبعاد تجاوزت ما كانت عليها في أوضاعها الأصلية اللغوية، مثل "المواطنة" و"القومية"، لذلك علينا بيان مفاهيمها الجديدة بدقة ثم الحكم عليها في ضوء مبادئ الشريعة الإسلامية ومقاصدها وفق فقه الميزان لنصل إلى مدى قبولها جملة أو رفضها، أو التفصيل فيها.
وقد أوضح القرآن الكريم أن المصطلحات لها أهميتها واعتبارها، ولذلك جاء النهي عن مصطلح مثل "راعنا" لما يحمله من معان سيئة لدى بعض الذين استعملوه فيها، مع أنه في أصل اللغة العربية ووضعها العربي يحمل مدلولاً طيباً ومفهوماً جميلاً، ولم يكتف القرآن بذلك بل أمر بمصطلح آخر ليحل محله وهو "انظرنا" فقال سبحانه: "يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُواْ لاَ تَقُولُواْ رَاعِنَا وَقُولُواْ انظُرْنَا وَاسْمَعُوا ْوَلِلكَافِرِينَ عَذَابٌ أَلِيمٌ".
وفي هذا التعامل القرآني مع المصطلحات دلالة واضحة على أن الأمة يجب أن تكون واعية في اختيار مصطلحاتها، بل وفي استعمالها أيضاً، وفي تربية أبنائها عليها.
ومن هذه المصطلحات التي شاعت ولكن مفهومها الاصطلاحي يختلف عن مفهومها اللغوي مصطلح: "المواطنة" الذي شاع مع الثورة الفرنسية ووصل إلى ديار الإسلام فيما بعد.
التعريف بالمواطنة
المواطنة لغة: مصدر واطن، وأصله من: وطن بالمكان، يطن وَطْناً: أي أقام به، اتطن البلد، أي اتخذه بلداً، واستوطن البلد أي توطنه، وَوَطنُ الشخص: بلده الذي أقام به.
وأما المواطنة من واطن: بمعنى عاش معهم في وطن واحد، فقد بيّن المعجم الوسيط (الذي يعبر عن رأي مجمع اللغة العربية بالقاهرة) أنها "محدثة" أي لم تستعملها العرب بهذا المعنى الحديث.
ولكن الفقهاء استعملوا "وطن الإقامة" في مقابل بلد السفر، أي الموضع الذي استقر فيه، أو يستقر فيه مدة يخرج بها المسافر عن أحكام السفر مثل خمسة عشر يوماً.
وكذلك يستعمل العرف المعاصر "الوطني" الذي يتبنى الفكر الوطني، ويدافع عنه، أو يجعله الوسيلة الجامعة بين المواطنين في الحقوق والواجبات، و"المواطن" الذي له جنسية ذلك البلد، كما أن هناك من يفرق المواطنين إلى مواطنين أصليين لهم حقوق أكثر، ومواطنين متجنسين لهم حقوق أقل، أو مواطنين أتوا من بلد معين أو نحو ذلك من التقسيمات التي ما أنزل الله بها من سلطان، بل جعل القومية والوطنية للتعارف وليس للاختلاف والتمايز والتفاخر -كما سيأتي.
وكذلك لم يستعمل قدماء العرب الوطن بمعناه الحديث وإنما استعملوه في المنزل والمكان الذي يقيم به الإنسان، جاء في لسان العرب: الوطن هو المنزل الذي تقيم به، وهو موطن الإنسان ومحله، وقال الفيروزآبادي: "الوطن: منزل الإقامة، ومربط البقر والغنم، وجمعه أوطان .. وموطن مكة: مواقفها، ومن الحرب مشاهدها، وتوطين النفس: تمهيدها..، وواطنه على الأمر: وافقه".
وبهذا المعنى ورد في أشعار العرب منها قول ابن الرومي في حق داره:
ولي وطن آليت أن لا أبيعه وألا أرى غيري له الدهر مالكاً
إذا ذكروا أوطانهم ذكرتهم عهود الصبا فيها فحنّوا لذلكا
والخلاصة أنّ الوطن هو المكان الذي ولد فيه، أو أقام فيه الإنسان في صباه وشبابه وارتبط بحبه والحنين إليه وإلى أهله دون أن يكتسب بُعداً حقوقياً محدداً، أو أن يكون مصطلحاً سياسياً له مفهومه الخاص في عالم المصطلحات السياسية، وإنما كان الوطن عندما يذكره العربي يقصد به مكان مولده، ونشأته، أو مكان إقامته فتعلقت به مشاعره الوجدانية والعاطفية.
والقرآن الكريم ذكر لفظ "مواطن" وأراد به أماكن دون الارتباط حتى بالمولد والنشأة فقال تعالى: "لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللّهُ فِي مَوَاطِنَ كَثِيرَةٍ .."، أي أماكن كثيرة، مثل بدر التي لم تكن موطناً لولادة المنتصرين فيها أو نشأتهم، ومثل بقية الغزوات قبل غزوة حنين.
ويبدو أنّ أول استعمالات "الوطني" و"الوطنية" و"الوطن" بمعناها السياسي في العالم العربي جاء على لسان الطهطاوي (1801 - 1873م) ثم في كتاب بطرس البستاني (1819-1883م)، حيث يقول الطهطاوي: "ثم إن ابن الوطن المتأصل به أو المنتجع إليه الذي توطن به، واتخذه وطناً ينسب إليه تارة إلى اسمه: (وطني) ومعنى ذلك أنه يتمتع بحقوق بلده.. فانقياده لأصول بلده يستلزم ضمناً ضمان وطنه له التمتع بالحقوق المدنية والتمزي بالمزايا البلدية، بهذا المعنى هو وطني وبلدي، يعني أنه معدود عضواً من أعضاء المدينة، فهو لها بمنزلة أحد أعضاء البدن، وهذه أعظم المزايا عند الأمم المتمدنة) إلى أن يقول: "فصفة (الوطنية) لا تستدعي فقط أن يطلب الإنسان حقوقه الواجبة له على الوطن، بل يجب عليه أيضاً أن يؤدي الحقوق التي للوطن عليه، فإذا لم يوف أحد من أبناء الوطن بحقوق وطنه ضاعت حقوقه المدنية التي يستحقها على وطنه".
وقريباً من هذا القول قال بطرس البستاني عندما تحدث عن ابن الوطن، والوطني، والوطنية.
وفي نظري أن ما ذكره الطهطاوي أخذه عن مفهوم الوطن لدى الفكر الغربي المعاصر حيث عاش في فرنسا وكان ضمن البعثة المصرية الأزهرية إليها.
يتبع..