فرصة سعيدة شبه ضائعة اسمها سعيد صالح (3)

06 أكتوبر 2021
+ الخط -

حرص عادل إمام على تجاهل كل الانتقادات التي يوجهها له سعيد صالح من حين لآخر، ولم يوجه له أي كتف قانوني برغم استفزاز الكثيرين له لكي يفعل، وكان ينتهز كل فرصة متاحة للتعبير عن محبته لسعيد وإعجابه به، أذكر أنه حين عرضت عليه إدارة قنوات راديو وتلفزيون العرب ART أن يصور مداخلة تلفزيونية للمشاركة في برنامج (ساعة صفا) مع الفنانة صفاء أبو السعود، لم يتردد في المشاركة، مع أنه رفض عمل حلقات خاصة عنه أكثر من مرة، وحين دعته الدكتورة هالة سرحان للمشاركة في حوار تلفزيوني، أصر على أن يظهر رفيق عمره سعيد صالح معه في الحوار، وأن يحصل على أي مقابل مادي يطلبه، ومع أنه لم يكن على اتصال دائم بسعيد، إلا أن الاتصال بينهما لم ينقطع، ولم يكن يتأخر عن مساندته ودعمه في أي وقت.

لكن وفاء الأصدقاء ليس تيمة بياعة في الصحف ووسائل الإعلام مثل تيمة "غدر الصحاب وجحودهم"، ولذلك حرصت كثير من الصحف ومواقع الإنترنت على أن تعزف نغمة جحود الصديق عادل إمام بعد رحيل سعيد صالح، على سبيل المثال لا الحصر قرأت في صحيفة كبيرة خبراً يحمل عنواناً (عادل إمام: المصيف منعنى من جنازة سعيد صالح)، مع أنك عندما تقرأ الخبر تدرك أن عادل إمام قال لمحررته أنه عندما حدثت وفاة سعيد كان في الساحل الشمالي وكان راغباً في السفر فوراً لحضور الجنازة، لكن ابنة سعيد قررت الدفن سريعاً وكان مستحيلاً عليه حضور الجنازة التي لم تفت عادل وحده بل فاتت على العديد من أصدقاء سعيد، وبعد نشر خبر عدم مشاركة عادل في الجنازة، بدأت عشرات الصحف والمواقع الإلكترونية تعزف على نغمة غدر الزمان وجحود عادل إمام، لدرجة استفزت هند ابنة سعيد صالح الوحيدة، فاضطرت وسط أحزانها أن تكتب على صفحتها في الفيس بوك طالبة من كل من قرر الحديث عن جحود أصدقاء أبيها وزملائه أن يشغل نفسه بالدعاء له، لأن الإسراع بنقل جثمان والدها للدفن في مسقط رأسه بالمنوفية كان قرارها الشخصي، مضيفة بنص ما قالته: "من فضلكم كمان مرة محتاجة أحزن على أبويا في سلام مش في مهاترات لا هتودي ولا هتجيب لأنه هو أصلا في حتة تانية خالص".

في وسط تلك الهوجة المثيرة للقرف، شاهدت فيديو انتشر على شبكة الإنترنت يظهر عادل إمام خلال حضوره العزاء، وهو يبتسم في حديثه مع السفير السعودي أحمد القطان الذي كان يجلس إلى جواره، وكيف اعتبر البعض تلك الابتسامة دليلاً على الجحود وقسوة القلب، بالإضافة إلى فيديوهات أخرى تظهر انفعال الفنان محمود عبد العزيز على أحد المصورين، وخناقة للممثل الشاب محمد رمضان مع أحد المواطنين، وعندها تذكرت سعيد صالح رحمه الله وهو يحكي عن علاقته الخاصة بسرادقات العزاء، ويقول إن أكثر مكان تصيبه فيه "كريزة" الضحك هي سرادقات العزاء خصوصاً عندما يرى مشهد الناس الذين يقومون بالمبالغة في الحزن أكثر من أهل الميت، وأنه كان دائما يتسبب في خناقات في العزاءات بسبب ضيقه من الذين يقومون بالمبالغة في الحزن ورغبته العارمة في السخرية منهم.

عندما تتأمل الحكاية بعد كل هذه السنين وبعد كل ما جرى لعادل ولسعيد، تشعر أن عبارة سعيد كانت شبهه، جامحة ومنفعلة وغاضبة وحقيقية

تذكرت موقفاً شهدته بنفسي في عزاء الحاج محمد إمام والد عادل إمام، كان ذلك قبل دخول سعيد صالح السجن مباشرة في مطلع عام 1996، ويمكن بالطبع أن تتوقع كيف كان ذلك العزاء مكتظاً بالناس، خاصة مع وجود آلاف المواطنين الواقفين خارج العزاء للفرجة على الداخلين إليه. كان عادل يقف في صدر العزاء بداخل السرادق محاطاً بصديقي عمره صلاح وسعيد، في حين كان شقيقه المنتج المسرحي عصام إمام ونسيبه الفنان الجميل مصطفى متولي يتوليان استقبال الناس في مدخل العزاء، وليلتها قام المقرئ بحركة شديدة الغرابة عندما ظل يتلو القرآن دون انقطاع لساعة كاملة، دون أن يلجأ إلى ما جرى عليه العرف في العزاءات المزدحمة، بأن يقرأ بعض الآيات ثم يتوقف ليخرج المعزون الموجودون في العزاء متيحين الفرصة لمن هم بالخارج.

كنت متوتراً ليلتها، لأنني كنت قد استأذنت من الأستاذ ابراهيم عيسى للذهاب إلى العزاء الذي وافق الليلة التي يتم فيها تجهيز صحيفة الدستور للطبع ـ في إصدارها القديم الذي كنت سكرتير تحريره ـ ووافق الأستاذ ابراهيم على منحي إذناً لمدة ساعة فقط لكي أذهب وأعزي سريعاً وأعود، وكان نصفها قد ضاع في المشي من حي لاظوغلي حيث كنا نقوم بالتجهيزات الفنية في مقر جريدة العربي إلى مقر العزاء في جامع عمر مكرم، وظللت أنتظر أن يتوقف المقرئ عن القراءة لكي أعزي عادل إمام وأعود إلى عملي دون أن أتسبب في تعطيله، وفجأة كدت أنفجر من الضحك أنا وكثيرون إلى جواري ونحن نرى سعيد صالح يذهب إلى المقرئ لكي يطلب منه بصوت مسموع أن يقول (صدق الله العظيم) لكي يتيح الفرصة لمئات الواقفين في الخارج لأداء العزاء، ليعانده المقرئ ويواصل القراءة خاصة وأنه يرى أمامه الحكومة المصرية بأكملها حاضرة في العزاء فضلا عن جميع فناني مصر وكتابها ولاعبيها، ولعله لن يحظى بجمهور مثل هذا بسهولة، ليستمر في القراءة والترتيل والتغني بالقرآن، ليعود إليه سعيد من جديد ويعلو صوته في الخناق معه، لدرجة أن البعض بدأ يحاول إبعاد سعيد عنه لكيلا يجذب الميكروفون من أمامه، في مشهد عبثي لم ينسه كل من شهده.

لا أدري إذا كان بمقدوري يوما ما أن أحكي عن ذكريات أيام الصعلكة التي جمعت عادل إمام وسعيد صالح وصلاح السعدني وهي الفترة التي يطلقون عليها بمزيج من السخرية والحنين اسماً كودياً هو (فترة المعجار الأناضولي) حيث بدأ فيها توافق مزاج الثلاثة القادمين من حواري القاهرة والجيزة، وبرغم أن كلاً منهم كان له صداقاته الخاصة به، وبرغم تفرق مسالك الثلاثة بين السينما والمسرح والتلفزيون، إلا أنهم حافظوا دائماً على روح الصداقة التي جمعت الثلاثة منذ ما قبل أيام مسرحية (مدرسة المشاغبين) والتي عمل صلاح مديراً لفرقتها لمدة ثلاثة أشهر بعد أن تم منعه من التمثيل مجاملة للرئيس السادات بعد غضبه على أخيه محمود السعدني الذي عاش فترة طويلة خارج مصر، واكتشف حينها أن التمثيل بكل صعوباته أسهل بكثير من إدارة فرقة مسرحية تجتمع فيها مواهب عارمة مثل عادل إمام وسعيد صالح، يفترض أن يقوم بحل خلافاتها وخناقاتها العبثية، خصوصاً حين تكون خناقة يومية بسبب الخروج على النص الذي يتبارى فيه عادل وسعيد وتحاول سهير البابلي عبثاً أن تجاريهما في ذلك، في أجواء عبثية دفعت عبد المنعم مدبولي من قبل للانسحاب من المسرحية التي لم يعد قادراً فيها على مجاراة تلاميذه، لكن عادل وسعيد استطاعا بذكاء شديد أن يحولا علاقة التنافس هذه إلى علاقة تكامل، يستفيد فيها الاثنان ويقومان بالتخديم على بعضهما، بشكل يستمتع به الجمهور ويساعد على تمتين نجوميتهما البازغة بعد سنوات من الصعلكة وعدم التحقق، وفيما بعد لعب سعيد صالح وعادل إمام دوراً مهماً في حياة صلاح السعدني، حين اعتذر سعيد صالح عن دور العمدة سليمان غانم في مسلسل (ليالي الحلمية)، واعتذر عادل إمام عن لعب دور الأسطى حسن أرابيسك في مسلسل (أرابيسك)، فيهدي اعتذارهما للسعدني بدون قصد أجمل وأهم دورين في مشواره الفني الذي تعثر في البدايات بسبب غضب نظام السادات عليه وعلى أخيه.

من حكايات فترة البدايات تستوقفني بالتحديد حكاية حكاها عادل إمام من قبل في حوارات تلفزيونية له دون أن يقول أن طرفها الثاني كان سعيد صالح حرصاً منه على ألا تفهم الحكاية خطئا، مع أن سعيد صالح بروحه العابثة العبثية كان يحكي الحكاية دون تردد، أقصد الحكاية التي يحكي فيها عادل أنه كان يسير مع صديق له على كوبري قصر النيل في منتصف الستينات قبل أن يحقق أي نجاح يذكر، ليرى شاباً يسير بسيارة مكشوفة مبهرة الشكل وإلى جواره تجلس فتاة حسناء، فقال عادل بانبهار "اللااااه"، في حين قال صديقه "يا ابن الكلب"، يحكي عادل الحكاية ليتحدث عن نظرته الإيجابية إلى الدنيا في وقت مبكر قبل أن يعرف النجاح، لكنك عندما تتأمل الحكاية بعد كل هذه السنين وبعد كل ما جرى لعادل ولسعيد، تشعر أن عبارة سعيد كانت شبهه، جامحة ومنفعلة وغاضبة وحقيقية، وأنها الأكثر منطقية ولا أقول صدقا لكي تخرج من صدر شاب يشعر برغبة عارمة في دخول معركة مع الكون ومع هذه المدينة التي يشعر أنها تضيق بأحلامه وطموحاته.

...

نكمل غداً بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.