فرصة سعيدة شبه ضائعة اسمها سعيد صالح (17)
جاء لقائي الأخير مع سعيد صالح بالصدفة، حين دعاني الصديق الراحل علي رجب ـ لعل ذلك كان عام 2002 ـ لكي أحضر حلقة ذكر ستقام في منزل صديقه المذيع طارق علام، والذي كنت ألتقيه من حين لآخر في بعض الكافيهات التي يدعوني إليها علي رجب. قال علي إن حلقة الذكر سيحييها "شيخ جديد جاي من اليمن" على حد تعبيره، في وصف الحبيب بن علي الجفري، الذي كان موضة جديدة في أوساط الفنانين الشباب الميالين للتصوف وقتها، والذين لم يكن يستهويهم عمرو خالد الذي كان في ذلك الوقت في عز انتشاره، وحين قلت لعلي إنني سأذهب للفرجة فقط، لكنني لن أبقى حتى النهاية، فوعدني أنني سأقع في غرام الشيخ من "أول حلقة" وسأتحايل عليه بعد ذلك ليصحبني معه.
حين وصلنا إلى بيت طارق علام في حي المهندسين وجدنا أن سعيد صالح هو الذي يستقبل الحاضرين بنفسه، وعرفت أنه يسكن في الشقة المجاورة لشقة طارق، وحين امتلأت شقة طارق بالمريدين الذين كان من بينهم عدد قليل جداً من الفنانين ورجال الأعمال، فتح سعيد صالح شقته لكي تستوعب المزيد من الحضور الذين كانوا يستمعون إلى حديث الشيخ عبر سماعات جرى إحضارها سريعاً، وحين ظل سعيد صالح يسير بين الجالسين في الشقتين وهو يوزع عليهم المناديل وزجاجات المياه، بدا لي في غاية السعادة بما يفعله، وتخيلت أنني رأيت في ملامح وجهه رضا لا تشوبه سخرية أو رغبة في المشاغبة كتلك التي رأيتها حين كان يطوف بالحاضرين في عزاء والد عادل إمام، لكنه استعاد روحه الساخرة حين انتهى حديث الشيخ الجفري الذي بدا لي متكلفاً و"برّانياً"، وبعد انتهائه بدأ سعيد في توزيع أطباق من الفتة واللحمة على الحاضرين وهو يحثهم على الأكل والدعاء له ولكل من شارك في إعداد الطعام، وكان ذلك آخر مشهد أرى فيه سعيد صالح "على الطبيعة"، لكنني شاهدته بعد ذلك في عدة برامج يتحدث فيها عن تجربته مع حلقات الذكر والدروس الدينية التي ساعدته على أن يستعيد سلامه النفسي واتزانه، لكن أغلب من كان يحاورهم لم يكونوا مهتمين بمعرفة المزيد عن تلك التجربة، لأنهم كانوا مثل سائر جمهوره يبحثون عن سعيد صالح المضحك البارع الذي لم يعد يضحك بنفس البراعة، والذي أصبحت برامجه التلفزيونية أكثر بكثير من أفلامه ومسرحياته، حتى إنه تحول في تلك الفترة إلى خيار سهل لمعدي البرامج التلفزيونية في القنوات الفضائية التي صارت أكثر من الهم على القلب، والتي صار الحضور فيها يساعد سعيد على تغطية نفقات معيشته، حتى لو استضيف معه في البرامج فنانون أقل منه تجربة واسماً، وحتى لو تكررت الأسئلة السمجة التي توجه إليه، والتي لا يزهق سائلوها من اللتّ والعجن في مواضيع المخدرات والسجن والفارق الشاسع في النجومية بينه وبين عادل إمام، مع حرص أغلبهم على التعامل معه بقلة ذوق و"جليطة" لعله ينفعل في إجابته ويمنحهم لحظة إثارة تبدد رتابة برامجهم المفلسة، وللأسف كان كثيراً ما يفعل.
كانت دولة حسني مبارك في تلك الفترة تعيش أزهى عصور سياسة "خليهم يتسلّوا" التي طبقها مبارك مع الإعلام والصحافة والفنون
في عام 2005 قام سعيد صالح بتقديم مسرحيته الأخيرة "قاعدين ليه؟"، التي عاد فيها للتعاون مع القطاع العام، أو كما يطلق عليه (مسرح الدولة)، لينجز مشروعاً كان قد بدأه مع صديقه الراحل محمد شرشر بإعداد معالجة مصرية لمسرحية (كأسك يا وطن) لمحمد الماغوط ودريد لحام، والتي كان سعيد شديد الإعجاب بها، لكنه أخذ فقط قالبها العام، وقام بعمل معالجة أقل درامية وأكثر مباشرة وخطابية، واشترك في الكتابة مع الممثل عادل أنور، شقيق زوجة الكاتب المسرحي الكبير بهجت قمر، والذي كان سعيد يعرفه من أيام فرقة الفنانين المتحدين، وكان يستعيد مع الجميع ذكريات صداقته ببهجت الذي كان دائماً يقول إنه كاتب أقل نص مسرحي قام سعيد بالتدخل فيه، وهو نص مسرحية (العيال كبرت)، لكن المسرحية لم تلق أي حظ من النجاح الذي كان يحلم به سعيد، وحين هاجمت الصحافة سعيد صالح واتهمته بالإفلاس، ولامه بعض النقاد لأنه لم يحافظ على مسرحية الماغوط ودريد، بل قدمها بشكل أقل تميزاً، دافع سعيد عن نفسه على طريقته، فقال إن الأعمال المسرحية السياسية التي سبق أن قدمها مع محمد شرشر كانت أكثر نضجاً من كل أعمال الماغوط ودريد، وأنها جعلت كتاباً معارضين، مثل عبد الستار الطويلة وفيليب جلاب، يعتبرون أنه أقام حزباً معارضاً رغم أنف الحكومة، وأنه لم يأخذ من الماغوط ودريد سوى الفكرة ليقدم مسرحية أكثر جرأة وشجاعة.
كانت دولة حسني مبارك في تلك الفترة تعيش أزهى عصور سياسة "خليهم يتسلّوا" التي طبقها مبارك مع الإعلام والصحافة والفنون، خاصة أن إتمام مشروع التوريث المنتظر لجمال مبارك نجل الرئيس كان يتطلب التأكيد على وجود انفتاح سياسي وإعلامي، ولذلك لم تجد وزارة الثقافة مشكلة في تقديم مسرحية "كباريه سياسي" يوجه فيها سعيد صالح أو المواطن صابر الصابر المصري انتقادات حادة للفساد والرشوة وأوضاع أقسام الشرطة والمستشفيات والأفران والمدارس والمصالح الحكومية وغلاء الأسعار وانهيار المرتبات، وفي حين كانت أجهزة الأمن حريصة خارج المسرح على قمع مظاهرات حركة (كفاية)، رغم محدودية المشاركة فيها، فقد تسامحت الرقابة مع وجود عبارات في مسرحية سعيد صالح مثل "في ناس كان لازم تمشي من زمان وما حدش فاهم قاعدين ليه ـ خدنا إيه من حكم العسكر ـ بقينا صفر في كل حاجة من المونديال للسياسة ـ الحكام العرب كراسيهم حديد بكماشة"، وغيرها من العبارات التي كان بعض من يحضر المسرحية من الكتاب والصحفيين ينقلها لكي يشيد بانفتاح الرقابة وتسامحها، في نفس الوقت الذي يهاجم فيه المستوى الفني المتردي للعرض الذي لا يمكن مقارنته بما قدمه محمد الماغوط ودريد لحام من إبداع في (كأسك يا وطن).
لكن تسامح الرقابة مع تلك العبارات اللاذعة التي قرأت عنها بدا لي مفهوماً حين قرأت مقالة نشرها موقع (الحوار المتمدن) في 30 أغسطس 2005 للكاتبة لبنى حسن، تحدثت فيها عن تجربتها السيئة في مشاهدة مسرحية (قاعدين ليه)، والتي ندمت عليها لدرجة أنها قالت إن "الاكتفاء باحتساء كوب مياه فاترة في شرفة مطلة على خرابة لم يكن سينجح في استفزازي وإغاظتي بقدر ما نجح سعيد صالح"، لأن المسرحية التي حفلت بانتقادات حادة للنظام والحكومة في فصلها الأول، تبدل حالها في الفصل الثاني حين قام سعيد صالح بالخروج على النص لمدة تزيد عن 15 دقيقة بدأها بتوجيه التحية لسيدة المسرح العربي سميحة أيوب، التي كانت تحضر العرض، كما تحدث عن حياته وذكرياته وأحوال الفن زمان، ثم اختتم كلمته التي تزامنت مع الانتخابات الرئاسية الأولى في تاريخ مصر المعاصر، بإعلان تأييده للرئيس حسني مبارك، معتبراً أنه المرشح الوحيد الذي يستحق المنصب لأنه يمتلك خبرة في إدارة شئون البلاد. وكما تقول الكاتبة الغاضبة في مقالها: "ردّد سعيد صالح على أسماعنا أناشيد الإعلام الحكومي من عينة مبارك رجل الضربة الجوية ورجل الاستقرار الذي حافظ على وحدة البلاد، مقارناً حالنا بالسودان، واعتبر أن أهم إنجازات مبارك هو أنه منحنا حق الانتخاب". وبعد أن انتهى سعيد صالح من كلمته الدعائية لمبارك، عاد إلى ترديد أغانيه السياسة التي لحنها من كلمات أحمد فؤاد نجم وبيرم التونسي وفؤاد حداد وعبد الرحمن الأبنودي، وعلى رأسها أغنية "باحبك يا مصر"، التي ترى الكاتبة أن سعيد صالح اختار أن يحب مصر دون شعبها الذي عزم على تضليله، وأن عرضه جاء معبراً عن حالة من الازدواجية جعلت سعيد صالح ينافس حركة (فنانون من أجل التغيير) بحركة (فنانون من أجل الدعاية والترويج والتثبيت).
...
نختم غداً بإذن الله.