فرصة سعيدة شبه ضائعة اسمها سعيد صالح (1)

04 أكتوبر 2021
+ الخط -

كان رحمه الله جامحاً، ولا أظن أنني لو أردت اختيار صفة وحيدة تلخص شخصية سعيد صالح، سأجد أفضل ولا أدق من وصفه بالجموح، بكل ما للجموح من دلالات إيجابية وسلبية معاً.

يقولون إن الفرس جموح عندما يندفع ويستعصي على راكبه، ويقولون إن السفينة جَمَحت عندما لا يتمكن ربانها من ضبطها، ويصفون العاطفة بأنها جامحة عندما ينقاد صاحبها وراءها ويفقد سيطرته عليها، ويقولون جَمَح خياله أي ذهب به بعيدا، وجَمَح به مراده فلم ينله، وأقول إن سعيد صالح كان جامحاً لأنه كان يجسد هذه المعاني على اختلافها، فقد كان شديد العناد مع نفسه ومع الآخرين، لدرجة أن أصدقاءه المقربين كانوا يطلقون عليه لقب "أبو عِند" في إشارة ساخرة تستخدم اسم ابنته الوحيدة هند لتشير إلى عناده الشديد مع نفسه ومع الآخرين، وهو عناد نابع من كونه صاحب موهبة مندفعة تستعصي على أي ضبط أو توجيه، أو ربما لم يتمكن هو من ضبطها، أو لم يرغب في ذلك منذ البداية، ولذلك فقد ذهبت به بعيداً عما كان يتمنى هو والذين راهنوا على موهبته التي بزغت في منتصف الستينيات من القرن الماضي.

"لا مش هينفع دي تتكتب"، عبارة أقولها لنفسي عندما أفكر في كتابة ما أعرفه من حكايات عن سعيد صالح، ليس لأن بها أسراراً شخصية تسيئ إليه، فقد كان نفسه الذي حكى لي تلك الحكايات عندما كنت أعمل على مشروع باب اسمه (أيام الصعلكة) اقترح فكرته الأستاذ إبراهيم عيسى عام 1998 ليُنشر في مشروع صحيفة (ألف ليلة) التي لم تصدر بعد أن تعرضت للمصادرة كشأن كثير من الصحف التي كانت ترتبط بإبراهيم عيسى في مرحلته المتمردة المشاغبة التي صنعت نجوميته وجلبت محبة الكثيرين له، وبرغم أنني سجلت خلال إعدادي لمادة ذلك الباب كثيراً من الوقائع التي حكاها لي عدد من كبار نجوم مصر، إلا أنني أصبحت أعتقد أن نشر هذه الحكايات سيكون صعباً، في ظل تزايد حالة المحافظة وسيطرة معايير الصوابية الأخلاقية التي اجتاحت المجتمع في الفترة الأخيرة وضيّقت الكثير من البراح ولا زالت تفعل كل يوم، وأدت إلى سيادة منطق (شاهد قبل الحذف) الذي يتصيد اللقطات والفقرات والسطور والجمل والعبارات ليصنع منها مادة تجذب المتصفحين النهمين لكل ما يصلح مادة للهري والنكت وتزجية أوقات الفراغ التي صارت أكثر من الهم على القلب خصوصاً بعد أن صارت السياسة فعلاً هادماً للّذات ومفرقاً للجماعات.

كان لي حظ معرفة سعيد صالح عن قرب بعد خروجه من حبسته الثالثة والأخيرة في النصف الثاني من تسعينيات القرن الماضي، صحيح أن علاقتي به لم تكن بنفس قوة وحميمية ودفء علاقتي بالفنانين الكبيرين صلاح السعدني وعادل إمام، الذين كانا الضلعين الآخرين من مثلث صداقة مدهشة مركبة يمكن أن تنخدع أحيانا باعتقاد أنها ليست دافئة ولا حميمة، لكنها مع أول اختبار تتكشف لك عن محبة عميقة تجمع أطرافها دائماً، لكن معرفتي القصيرة به كانت كافية لفهم ما جرى لصاحب تلك الموهبة الفياضة المدهشة والضائعة أو فلنقل "شبه الضائعة"، لأنه تعامل معها في أغلب الأحيان باستخفاف، وظن أنها هبة أزلية لا تتطلب منه أن يشتغل عليها ويحارب من أجلها، متصوراً أنها ستظل في خدمته إلى الأبد، بدلا من أن يكون هو دائما في خدمتها.

لم يكن سعيد صالح مثل غيره من الفنانين الذين نرى لبعضهم تصريحات بعد تقدم العمر وهم يتحدثون عن ندمهم على أعمال فنية قاموا بها بحثا عن المال أو من أجل الإنتشار

ربما كانت هناك حكاية مفتاحية لفهم هذا المعنى، حكاها لي عادل إمام أولاً واستوثقت منها من سعيد صالح بعد معرفتي به، وفوجئت أنه يحكيها لي بسعادة بالغة على عكس ما كنت أتصور، تقول الحكاية إن عادل إمام في مطلع التسعينات ومع أول ظهور للأطباق الفضائية كان يقلّب في القنوات العربية الموجودة على "الدِشّ"، ليجد على أحدها فيلماً عجيب الشكل متواضع المستوى من بطولة سعيد صالح، لم يكن عادل قد سمع عنه ولا عرف أن سعيد قام ببطولته أصلاً، فاتصل عادل بصديقه مستغرباً وسأله ساخراً: "إيه يا سعيد الفيلم الغريب اللي انت عامله ده؟"، ليفاجأ أن سعيد يرد عليه ضاحكا بتحدي: "وهو انتو لسه شفتوا حاجة.. ده أنا هاهريكو أفلام الفترة الجاية.. هو اللي بتعملوه ده سينما أصلاً، أنا هاوريكو السينما في عز الضهر؟".

يحكي سعيد صالح الحكاية لي ضاحكاً ومتحدثاً عن تجاربه في تمثيل سيل من الأفلام التي لعب بطولتها والتي أطلقت عليها الصحف ووسائل الإعلام لقب "افلام المقاولات"، وكانت تشكل ظاهرة غريبة خلال فترة انحسار صناعة السينما في النصف الثاني من الثمانينات والنصف الأول من التسعينات، لا أتحدث هنا عن الأفلام قليلة التكلفة التي كانت منتشرة طيلة النصف الأول من فترة الثمانينات والتي كان سعيد صالح يلعب بطولتها أو يشترك في بطولتها إلى جوار كوميديانات آخرين مثل سمير غانم ويونس شلبي، والتي اشتهرت له منها أفلام متوسطة المستوى مثل (محطة الأنس ـ مخيمر دائما جاهز ـ حسن بيه الغلبان ـ مسعود سعيد ليه ـ القط أصله أسد ـ نأسف لهذا الخطأ) وغيرها، فقد عاش بعض هذه الأفلام حتى الآن، أو عاشت على الأقل منها مشاهد وإفيهات، في حين سقطت أفلام أخرى من الذاكرة، واختلفت في تقبلها جميعاً الأذواق والاهتمامات السينمائية، لكنها على الأقل كانت أفلاما تخضع لدورة حياة الفيلم الطبيعي الذي يصنعه سينمائيون محترفون لكي يشاهده الناس في دور العرض السينمائي فيحبوه أو يكرهوه أو يتجاوزوه.

أما الأفلام التي تندرج تحت بند (أفلام المقاولات) الذي صكته الصحافة الفنية في منتصف الثمانينات، فهي لم تكن تصنع أصلاً لكي تعرض في دور العرض، بل كانت تستهدف سوق الفيديو الذي كان قد بدأ انتشاره في دول الخليج التي لم يكن أغلبها قد عرف دور السينما، ولذلك كان يتم تصوير الفيلم في أسبوعين إذا كان فيلماً كبيراً، فالأغلب الأعم كان يتم تصويره في عشرة أيام أو أسبوع واحد طبقا لما يرويه سعيد صالح الذي تعاون في هذه الأفلام مع مخرجين "كلشنكان" أو "ناس غلابة" على حد تعبير سعيد الذي لن تندهش عندما تعرف أنه لا يتذكر أسماء أغلب تلك الأفلام ولا قصصها ولا ظروف تصويرها، ويقول ساخراً إنك لو سألت مخرجيها أنفسهم عنها لما تذكروها، لكنه في الوقت نفسه كان يظهر في أغلب الحوارات التي تجرى معه ليتفاخر بأنه الممثل الذي قام بعمل أكبر عدد من الأفلام في تاريخ السينما المصرية. في سنواته الأخيرة كان يقول إن عدد تلك الأفلام وصل إلى 518 فيلماً، لكنه في الوقت نفسه لا يمتلك توثيقاً لأسماء هذه الأفلام، بل يحفظ رقمها فقط، وهو ما يصعب التأكد منه في ظل حالة بؤس التوثيق التي تعاني منها السينما المصرية، لكن من المؤكد أن سعيد صالح ربما كان يبالغ في الرقم، وهو ما يفعله حين يقول في حوارات كثيرة إنه لحّن ستين ألف قصيدة، أحياناً يصل بالرقم إلى سبعين ألف وأحياناً ينزل به إلى عشرين ألف، بينما ظل حتى منتصف التسعينات يقول في حواراته إن عدد الألحان التي أنجزها يصل إلى 350 عملاً فقط، وهو رقم يبدو أكثر واقعية.

لم يكن سعيد صالح مثل غيره من الفنانين الذين نرى لبعضهم تصريحات بعد تقدم العمر وهم يتحدثون عن ندمهم على أعمال فنية قاموا بها بحثا عن المال أو من أجل الإنتشار، راجع مثلا تصريحات كثيرة لملك السينما المتوّج شعبياً فريد شوقي الذي كان يبدي ندمه دائما على كثير مما قدمه في مرحلة ما قبل فيلم (الأسطى حسن)، وعلى بعض أفلامه في نهاية الستينات وبداية السبعينات. بعض هؤلاء الفنانين مثل سمير غانم ستجده يسخر بشدة من هذه الأفلام ومخرجيها، لكنه بلطفه الشديد يتجنب ذكر أسماء محددة للأعمال التي يندم عليها لكي لا يغضب زملاءه الذين شاركوه في صنعها، أما سعيد صالح فعلى العكس لا يبدو نادماً على شيء مما قدمه للسينما أياً كان مستواه، بل ولا يبدو مكترثاً من أصله بتصنيف هذه الأفلام وتوصيفها، بالنسبة له كان "شغل وخلاص" كان يقوم بعمله لكي يكسب منه أموالاً ينفق منها على المسرح، ولذلك أدى هذا الشغل المطلوب منه، وليس من الحكمة ولا الجدعنة أن يندم عليه أو يتحدث عنه بشكل سلبي، وإنما يعلق عليه بشكل عام قائلاً: "كل الحكاية إني ما انبسطتش في السيما زي ما انبسطت في المسرح ويا سلام لو كان ينفع ما اشتغلش طول عمري غير مسرح بس".

...

نكمل غداً بإذن الله.

605C8788-2DB9-4AE6-9967-D0C9E0A2AD31
بلال فضل
كاتب وسيناريست من مصر؛ يدوّن الـ"كشكول" في "العربي الجديد"، يقول: في حياة كل منا كشكولٌ ما، به أفكار يظنها عميقة، وشخبطات لا يدرك قيمتها، وهزل في موضع الجد، وقصص يحب أن يشارك الآخرين فيها وأخرى يفضل إخفاءها، ومقولات يتمنى لو كان قد كتبها فيعيد كتابتها بخطه، وكلام عن أفلام، وتناتيش من كتب، ونغابيش في صحف قديمة، وأحلام متجددة قد تنقلب إلى كوابيس. أتمنى أن تجد بعض هذا في (الكشكول) وأن يكون بداية جديدة لي معك.