غوغول و"الأرواح الميتة"
اشتهر الأديب الروسي نيكولاي غوغول بقصته البديعة "المعطف" التي اعتبرها النقاد أساس الإبداع القصصي العالمي الحديث، ويُنسب للروائي العبقري فيودور دوستويفسكي قوله: "كلنا خرجنا من معطف غوغول.."، وقد بدا أثر غوغول جليّاً في البدايات السردية لدوستويفسكي، قبل أن يستقل بأسلوبه وعوالمه الغامضة والمثيرة، وإن كان البعض يرى أنّ صاحب "الجريمة والعقاب" لم يتخلص من الأجواء الروحية لغوغول في الكتابة الأدبية، إلى حدّ الوقوع في جحيم البشر بالسفر إلى الأماكن المثيرة والأعماق المظلمة للنفس البشرية، وقد كان غوغول أستاذاً للسرد الواقعي والعجيب في طابع كوميدي أحياناً، ولكنه مرعب في مقاصده ودلالاته، وممّا أبهر معاصريه الطريقة والأسلوب في رسم الشخصيات والدقة في وصف الأمكنة والبراعة في تتبّع التفاصيل التي لطالما أتعبت قريحة الكتاب لأنّ الشياطين تسكنها.
من الذين اكتشفوا عبقرية غوغول شاعر روسيا العظيم ألكسندر بوشكين، الذي كان صديقاً له، ولطالما راجع مخطوطات محاولاته السردية الأولى قبل نشرها. ورغم القيمة الفنية العالية لنصوص غوغول مثل "المعطف"، "الأنف"، "اللوحة"، "المفتش العام" وغيرها.. غير أنه كان قلقاً على الدوام، وتطلعت نفسه إلى شيء مختلف يُشبع به ظمأه الروحي والأنطولوجي، والذي لا يكون إلّا بميلاد عمل فني ملحمي كبير يكون مع تديُّنه المسيحي دواءً وجواباً عن أسئلة الوجود التي زاد من تعقيدها سلوك وأوضاع البشر الذين يحيطون به. ومن فرط قلقه، طلب من صديقه الشاعر أن يساعده بتوجيهه إلى موضوع يكون عنواناً لهذا العمل، وكانت النتيجة رواية "الأرواح الميتة" التي فضّل غوغول تسميتها بالقصيدة لشعريتها وحدثها الملحمي، وكأنّ هذه الرواية تتدفق سرداً مثل مقاطع قصيدة ملحمية طويلة.
تبدأ الرواية بوصول البطل "تشيتشيكوف" إلى قرية "ن"، وفي وقت قياسي يفوز البطل بقلوب الكثير من الوجهاء ويحظى باحترام جلّ الشخصيات المهمة: "رأى حاكم الولاية تشيتشيكوف أنّه رجل ذو أهداف سامية، ورأى المدعي العام أنّه رجل أعمال بارع... ورأى رئيس الشرطة أنه إنسان محترم ومتأدب، ورأت زوجة رئيس الشرطة أنّ أدب سلوكه لا يعادله إلّا حسن تربيته..".
ورغم النجاح الباهر الذي حصل عليه البطل في اختراق كلّ الحواجز التي تتطلبها الحبكة، والتي تتمركز في عبارة تشيتشيكوف لصديقه مانيلوف حين يقول: "إنّ الذي أريد هو أن أشتري الأقنان الموتى الذين ورد اسمهم في لوائح الإحصاء الأخيرة على أنهم أحياء..". لكن قلق غوغول يزداد مع تطوّر القصة، ممّا يجعله يتدخل مكسّراً مسار السرد بطرح بعض احتمالات عجز بطله أمام شخصيات قوية ذات معرفة وذكاء: "فإنّ أشخاصاً كهؤلاء ممن يحملون رتبة جنرال، من المحتمل أن يعاملوا تشيتشيكوف بإهمال مقصود، والإهمال المقصود ينفث الموت للمؤلف..".
"الأرواح الميتة" التي اشتراها البطل تشبه أرواح الأحياء لغياب الفضيلة والقيم والأخلاق وتفشي النفاق والظلم والفساد
نشرت الرواية في سانت بطرسبرغ سنة 1842 بعدما رفضتها الرقابة في موسكو، وكان من بين اعتراضاتها أنّ العنوان مخالف للمبادئ الدينية، وأنّ الأرواح خالدة لا تموت، فضلاً عن أنّ العمل يحطّ من قيمة الأمة الروسية، بما فيه من نقد وهجاء عنيف للمجتمع ومؤسساته. ومع ذلك لاقت الرواية استحساناً من بعض النقاد، وعلى رأسهم فيساريون بلنسكي، الذي ساعد غوغول في نقل المخطوط من موسكو إلى سانت بطرسبرغ، واعترف بالقيمة الفنية العالية للعمل، ومن خلاله اعتبر دور غوغول في تاريخ الفن الحديث هو نفس الدور الذي لعبه هوميروس في تاريخ الفن القديم.
وعلى رأي المهتمين بالمنجز الإبداعي لغوغول، فإنّ هذه المفارقة في التقريب بين "الأرواح الميتة" وملاحم هوميروس تجد تبريرها مع تطوّر تلقّي هذه الرواية التي كانت هجاء لروسيا القيصرية، ومع مرور الوقت تحوّلت إلى ملحمة كبيرة. وقد زاد من تعميق هذا المنظور كتابة غوغول للجزء الثاني من هذه الملحمة، والذي كان مصيره الحرق برمي صفحاته في موقد غرفته، وتبعته أزمة صحية أودت بحياة الكاتب في سن مبكرة.
أثارت وفاة غوغول وضياع الجزء الثاني لعمله الكبير حفيظة النقاد وفضول المتابعين، فبدأت حركة البحث في ثنايا الجزء الأول وبعض رسائل المؤلف للكشف عن مشروعه وفك لغز إبداعه. فاقترح بعضهم أنّ ما كتبه غوغول يشبه "الكوميديا الإلهية" لدانتي، وأنّ ما قدّمه في الجزء الأول ما هو إلّا "الجحيم"، وهو جحيم البشر في روسيا القيصرية، الذين صوّرهم الكاتب ونحت أوصافهم بسخرية وهجاء منقطع النظير، فالأرواح الميتة التي اشتراها البطل تشبه أرواح الأحياء لغياب الفضيلة والقيم والأخلاق وتفشي النفاق والظلم والفساد.
ويبرز سبب هذا التأويل حين نقرأ داخل الرواية تدخل الكاتب بعناية فائقة، وهو يشير إلى عدم إزعاج بطله تشيتشيكوف في مغامراته، لأنّ له مهمة صعبة في جزأين كبيرين قادمين من هذه القصيدة. والاحتمال الكبير أن يكون الجزء الثاني بمثابة "المطهر" والثالث "الفردوس".
وبعرضنا لهذه الملابسات التي صاحبت هذه الملحمة، فإننا نرى أنّ هذه الرواية قد أخذت الكثير من صحة الكاتب وامتزجت بجسده وروحه، وربّما كانت سبباً في القضاء عليه، لأنّ الطموح الفني فاق قدراته العقلية والنفسية، وكان يريد لبطله أن يتطهر من خطاياه، ولروسيا أن تتوب وتُشفى من أمراضها في الجزء الثاني، وتفوز بالجنة في الجزء الثالث.