الرقص على إيقاع الأفكار
يسرُد نيكوس كازانتزاكيس في روايته "زوربا اليوناني" لغز الحياة على الأرض من خلال رجل مثقف مولع بالمعرفة والأدب، فهو يسافر حاملاً معه كتاب "الكوميديا الإلهية" لدانتي، ويقرأ منه صفحات من حين إلى آخر. وسرعان ما يلتقي شخصاً من طراز خاص يربك حياته النفسية والفكرية. إنه زوربا، رمز الأرض والتراب والهواء، القوة والشجاعة والحرية. زوربا الحياة بحُلوها ومُرّها، العنصر البشري الضعيف أمام الأسئلة الكبرى للوجود، والتي يواجهها بالعمل والرقص والعزف على آلة السانتوري.
برع الكاتب في بناء شخصية زوربا، وجعلها تحاكي تراجيديا حياة الإنسان على الأرض في تاريخه الطويل، عبر سرد القوة والهشاشة، الخير والشر، المتعة والألم. زوربا يعيد البشر إلى أصولهم الترابية، وإلى أزمنتهم الأسطورية الأولى، حين كان تَديُّنهم راقصاً، وكان الرقص لغتهم المُفضَّلة في التعبير عن مشاعرهم، وحيث كانوا يشاركون الحيوانات أصواتهم وحركاتهم: "..ورأيت زوربا يقف فجأة. خلع ثيابه ورمى بها على الحصى وغطس في البحر. ولبضع دقائق من خلال نور القمر الشاحب، رأيت رأسه الكبير يرتفع ثم يختفي. وبين وقت وآخر، يطلق صرخة، يعوي، ينتحب، يصبح مثل الديك، في هذا الليل الفارغ، وجدَتْ روحه صلة بالحيوانات..".
يحتار زوربا من صديقه المثقف ويشفق عليه من ضغط الكتب ويدعوه إلى قراءة صفحات من نوع مختلف، ليست فيها حروف نائمة كسولة على الورق، بل حياة حركة ومتعة ورقص ومغامرة. وهي الملاحظة نفسها التي يقدمها له صديقه الذكي الساخر المتحضر ذو اليدين الأرستقراطيتين بأصابعهما الطويلة النحيفة، والذي يشير إلى فراقه الصعب والمؤلم في مستهل الرواية: "إلى متى ستستمر بمضغ الورق وتمريغ نفسك في الحبر؟ لماذا لا تأتي معي؟ بعيدا، هناك في القوقاز آلاف من شعبنا في خطر. دعنا نذهب وننقذهم".
وكُتبت للرجل المثقف رحلة شاقة وماتعة وضعت في كلّ محطاتها قناعاته وأفكاره موضع اختبار، فقد كان يشعر وهو يتسلّق الجبال الوعرة وعورة سلم العقل حين ينتقل من البسيط إلى المُركَّب، ومن حقائق السهول المريحة إلى المفاهيم المتهوّرة. واستطاع زوربا أن يُحيي الطفل الذي في داخل صديقه، فاستعاد بذلك تقاليد اللّعب والفرح في التعامل مع الطبيعة. وكما الأسطورة حين تخلَّصت من إشعاع القداسة والميراث العاطفي البشري القديم، تفكَّكت وتحوَّلت إلى حكايات ارتبطت أكثر بواقع البشر. والرجل المثقف شعر أيضاً بأن توّهج سنواته المبكرة، المملوءة بالأفكار والمفاهيم المتهوّرة، قد تحلَّل إلى متعة جمالية.
الارتباط بالتراب هو نوع من العلاقة الغامضة مع الطبيعة الأصل
وكان زوربا اليوناني صديق المثقف المهموم بالأفكار وبالألغاز المسيطرة على الطبيعة والكون، هو عنوان الهشاشة البشرية المتأصلة في الوجود، والتي كتب حروف بداياتها أبوا البشر تحت غواية الشجرة. والارتباط بالتراب هو نوع من العلاقة الغامضة مع الطبيعة الأصل، وقد تجعل الجمجمة قاسية، ولا تسمح لزوربا بملاحقة الأفكار المتعالية التي يتشبّث بها صديقه، لذلك هو يطلب من صديقه العودة إلى إيقاع الطبيعة، بأصواتها، وألوانها، والإنصات إلى صوتها داخل الإنسان لفكّ شيفرة هذه الحياة المعقدة: "لديّ جمجمة قاسية يا سيدي فلا أستوعب هذه الأشياء بسهولة... آه، لو تستطيع أن ترقص كلّ ما قلت لكنت فهمت". ويسقط الصديق العارف عاجزا أمام هذا التحدّي، حين يقول: "عضضت على شفتي بذعر، لو كنت أرقص تلك الأفكار المتهورة! ولكنّني لست قادراً، وهذا يعني ضياع حياتي".
تقدم هذه الرواية الملحمية معركة اللوغوس مع الحقيقة واشتباكه مع مأساة الحياة وملهاتها من أجل فك شيفرة الوجود البشري على هذه الأرض، ولكن العمليات العقلية على براعتها تصطدم بأمواج الشعور والعاطفة الخالقة للجمال والفن، وهي تستولي على مساحة واسعة من لغز الحياة البشرية. وتبقى الحكمة متربعة على عرش الحقيقة، وقد سمعها ألكسيس زوربا وهو طفل من أحد الحكماء: "اسمع يا صغيري: ليست طبقات السماء السبع ولا طبقات الأرض السبع كافية لتستوعب الله، ولكن قلب الإنسان يستطيع... يا ألكسيس لا تجرح قلب إنسان..".